لم يسمع كثيرون وكثيرات في العالم العربي بمحمد محمود مصلح الأسود، المُكنى بـ«غيفارا غزة». يرفع الشباب العربي صوراً لتشي غيفارا، وهم لم يسمعوا برمز عربي محلّي للنضال العالمي. «غيفارا غزة» تجربة رائدة في النضال المُقاوم بمستوياته المُختلفة. لم يكن فقط قائداً فدائيّاً أتقن وأدار حرب عصابات مُكلفة ضد العدوّ الإسرائيلي، بل كان أيضاً زعيماً شعبيّاً عرف كيف يبني تنظيم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، لبنة لبنة، وعرف كيف يربط القطاعات في المجتمع المدني بعضها ببعض. لم يستطع العدوّ هزيمة «غيفارا غزة»، فشنّ حرباً بقيادة أرييل شارون ضدّه، إلى أن مات «غيفارا غزة» والبندقيّة في يده. يمثّل الرجل تاريخاً مجهولاً عن تاريخ نضالي طويل لغزة. لم تبدأ المقاومة اليوم، ولا أمس، ولا في السنة الماضية. هي متلازمة مع بدء الحركة الصهيونيّة.قد يكون التحليل الطبقي مفيداً هنا. إن الفقر الذي ساد في قطاع غزة على مرّ العقود جعل منه خزاناً للمقاومة. هناك تجمّع الغاضبون والغاضبات وشكّل الغزاويّون نسبة عالية من هؤلاء اللاجئين الذين شكّلوا تنظيمات فدائيّة في ما بعد. كان «غيفارا غزة» طفلاً عندما تشكّل الكيان الغاصب، لكن سيرة القطاع كانت دوماً مصدر إزعاج (مقاومة) للعدوّ. اللوبيات الصهيونيّة حول العالم تتهم زوراً وبهتاناً أحمد الشقيري أو ياسر عرفات بأنهما هدّدا برمي «اليهود في البحر». لكن الحقيقة أن أمر العمليّات لسلاح الجوّ الإسرائلي في حرب 1967 تحدّث رسميّاً عن دفع العرب نحو الصحراء. إسحق رابين كان صريحاً في التسعينيات عندما تمنّى أن تغرق غزة في البحر. لكن ليس هناك تاريخ منفصل لفلسطين أو للقضيّة الفلسطينيّة. يحاول العدوّ وأعوانه العرب (وخصوصاً في رمز خدمة العدوّ في مقاطعة رام الله المُشينة) تجزئة القضيّة الفلسطينيّة إلى قرى ودساكر، كما كان مشروع «روابط القرى». إن اتفاق أوسلو والمفاوضات التي سبقته كانت قائمة على أساس التجزئة هذه. ولم تقم قائمة لحركة «فتح» في الضفّة الغربيّة إلا بعد تشكيل جيش مُنهزم ومتعاون على نسق جيش لحد. لكن غزة أفلتت من سلطة أوسلو بتدبير عسكري متقن من أحمد الجعبري بعدما أفشل مخطّطاً أميركيّاً لمحمد دحلان للانقلاب على نتيجة انتخابات لم ترق جورج بوش.
والذي يتابع القضيّة الفلسطينيّة يعلم أن غزة كانت ولا تزال في صلب المقاومة. لكن هناك أبعاداً جديدة لما يجري لأن السياق العربي تغيّر، ولكن ليس بالصورة التي أشار إليها أمير قطر ورئيس وزرائه الخانع. لم يتغيّر المشهد العربي الرسمي: لا تزال الأنظمة العربيّة (بما فيها النظام السوري الذي لا يزال ينتظر تحديد الزمان والمكان للمعركة، بينما تتعرّض أرض سوريا لنيران إسرائيليّة) مُتخاذلة في تعاطيها مع العدوان الإسرائيلي. إسرائيل تعتدي على غزة والنظام السعودي وميشال سليمان (من يستمع إلى ما يقوله ميشال سليمان السائح؟) يردّان بالتهديد بالسلام الشامل والتطبيع مع العدوّ. وليد جنبلاط ردّ على عدوان غزة بالإصرار على حلّ الدولتين كي يهنأ لإسرائيل العيش بسلام وأمان (هل لا يزال يلتقي في حافلات القطار بنوّاب إسرائيليّين؟).
لكن الحدث الأهم كان في متابعة ردّ فعل الإخوان في مصر على عدوان غزة. أيّام قليلة كانت كافية للحكم والإدانة الأخلاقيّة والسياسيّة. كل العقود من الخطب المقيتة عن خيبر وعن «الجهاد ضد اليهود» وعن «أرض المسلمين» ذهبت هباءً هراءً. تبيّن أن الجهاد عند الإخوان المسلمين يكمن في سحب السفير _ وهو ردّ فعل حسني مبارك نفسه. يبدو أن الخلاف بين الإخوان ومبارك كان على السلطة فقط لا على السياسة الخارجيّة (أو حتى الداخليّة، وخصوصاً أن الإخوان يستعينون في حكمهم بالفلول). تبيّن أن الذين تقيّأوا الخطاب البذيء عن الجهاد تحوّلوا بمجرّد وصولهم إلى السلطة إلى وسطاء بين العدوّ الإسرائيلي وأهل غزة ومقاومتها. هؤلاء الإخوان على حقيقتهم. وزير خارجيّة تونس صرّح في غزة بأن العدوان على غزة «غير مقبول». بات زاعقو الجهاد والهتافات المقيتة عن خيبر يستقون مصطلحاتهم من كلمات الناطقة باسم الخارجيّة الأميركية. لكن لا غرابة في هذا الكلام. ألم يبعث إخوان مصر والنهضة في تونس بقياداتهم للركوع أمام جمهور اللوبي الصهيوني في واشنطن قبل وصولهم إلى السلطة؟ ألم يقدّموا أوراق اعتمادهم أمام الراعي الصهيوني من قبل؟ وألم يقم حزب النهضة بالواجب عبر منع وضع بند تجريم التطبيع مع العدوّ في مشروع الدستور؟ ألم يلتزم الإخوان في مصر بالتكرار أكثر من خمس مرّات في اليوم بأنهم لا يعبدون إلا الله واتفاق الاستسلام مع العدوّ؟ إن نشاط حكم الإخوان في تدمير الأنفاق مع غزة فاق نشاط حكم حسني مبارك.
لكن السلالة القطريّة (في كلام كرّرت بثّه محطة «الجديد» وكأن فيه جديداً أو كأن فيه ما يثلج القلب الغاضب) أصرّت على أن ردة فعل النظم العربيّة إزاء العدوان مختلفة عن السابق. لكن أمير قطر ورئيس وزرائه لم يوضّحا ما عنياه، وخصوصاً أن حمد بن جاسم _ المُقتدي بالنعاج في الدفاع عن فلسطين _ صرّح للـ«سي.إن.إن» بأنه ليس لديه «أي شيء ضد إسرائيل». وكان صريحاً في المحافل الغربيّة، إذ قال: «موضوع الأسلحة إلى غزة، نحن نتحدّث عن السلام وعن الدعم الإنساني وإعادة إعمار ما دمّر. موضوع التسليح نحن ضدّه.» لم يشرح حمد هذا كيف تغدق سلالته السلاح والمال على المجموعات المسلّحة (وخصوصاً السلفيّة منها) في سوريا وتحرم منها قوى المقاومة في فلسطين. لم يشرح حمد أن المال القطري لا يُنفق من دون إذن أميركي. لم يشرح حمد أن سلالته موّلت كل الثورات المضادة في العالم العربي لإجهاض مشروع الثورات العربيّة في العالم العربي.
ولكن، كيف تغيّرت ردّة فعل الأنظمة كما تكرّر قطر وحكم الإخوان في تونس وفي مصر؟ الخطب هي هي، والبيانات هي هي، والحكم السعودي طالب بـ«تحكيم العقل»، فيما تبارت أبواق آل سعود وآل الصباح في مناصرة إسرائيل. والحكومة الإسرائيليّة وإعلام العدوّ أشادا بإعلام آل سعود. «يديعوت أحرونوت» نوّهت بمقالات طارق الحميّد ووصفت نشرة الأمير سلمان، «الشرق الأوسط»، بأكثر الصحف العربيّة شعبيّة. الغرام بين آل سعود والصهاينة لم يعد خافياً، وهو سمة في العلاقات الدوليّة. لم يعد الكونغرس الأميركي يثير اعتراضاً على صفقات الأسلحة العملاقة بين السعوديّة وأميركا، كما كان يفعل في الماضي. تيقّن الكونغرس من أن أسلحة السعوديّة هي لعون أميركا وإسرائيل. وزراء الخارجيّة العرب تناوبوا على إلقاء خطب الذل والتخاذل، مع أن وزير الخارجيّة اللبنانيّة الذي تعوزه قوّة الشخصيّة ألقى أفضل الخطب على الإطلاق (حركة «أمل» تنتقي أسوأ الوزراء في لبنان).
لا شكّ في أن المقاومة في فلسطين لم تنته، بالرغم من «أوسلو». لكن هناك ما يثير القلق، وخصوصاً بعد تحقيق الهدنة «الموعودة» في غزة. حركة «حماس» في فرعها الخارجي القطري تعدّ لتحوّل نحو مسار حركة «فتح» في التفاوض مع العدوّ. كان بارزاً أن خالد مشعل قدّم شكره للحكومة القطريّة، من دون توجيه الشكر لمن سلّحه ومن درّب عناصره. لكن خالد مشعل معذور، فالجيش القطري هو الذي أمدّ حماس بالصواريخ وهو الذي درّب عناصر «القسّام» على حرب العصابات ضد العدوّ. والإخوان تتعاون مع أميركا وقطر لتطويع حركة «حماس». هناك دفع للمسار «السلمي» (أي الاستسلامي) ومن أجل ضمان توريث «حماس» لتركة حركة «فتح» الانهزاميّة، رغم أن الجناح المقاوم في «حماس» وقاعدة التنظيم برمّتها رافضان للتسوية. والصهاينة في أميركا يثنون يوميّاً على أداء حكم الإخوان في مصر، وقد لاحظوا أن خطاب مرسي أثناء الحرب على غزة لم يحد عن الخطاب الدبلوماسي المصري التقليدي في حكم السادات _ مبارك. حتى خالد مشعل لم يشأ إحراج حلفائه الإخوانجيّين في العالم العربي _ أو في النظام الرسمي العربي. لم يطالب بإلغاء الاتفاقات مع العدوّ: طالب فقط بـ«إعادة النظر». قد تستمرّ عمليّة إعادة النظر لسنوات أو عقود، فيما يكتمل تربّع أو تمكين «حماس» في السلطة على طريقة حكم الإخوان المُنتشرة.
لن تكون هذه آخر حرب على غزة. الحروب ستستمرّ كما استمرّت منذ بدء الحملة الاستيطانيّة الصهيونيّة الأولى على أرض فلسطين. الحروب هي الطريقة الوحيدة للكيان الغاصب كي يهنأ باله في الاحتلال. يعمد الاحتلال منذ إنشائه إلى إرهاب العرب وتركيعهم عبر مجموعة من وسائل الضغط العنيف والإرهاب بما يتضمّن من الخداع والتخريب والبلبلة وإحداث حالات الذعر والتخويف والكذب المُتكرّر. لكن رصد عقود الصراع العربي الإسرائيلي تسمح باستخلاص عبر عن تغيير ما في قدرات العدوّ:
1) ما عاد المقاتل العربي يفرّ مذعوراً أمام الجندي الإسرائيلي. 2) لم يعد القصف بالطيران كافياً من أجل نشر الأعلام البيض على السطوح (كما حدث في جنوب لبنان عام 1982). 3) الدعاية الصهيونيّة السياسيّة في حالة لافتة من التخبّط والاضطراب، والأكاذيب تكرّرت، إلى درجة ساهمت في دحضها. تجد الشباب العربي على فايسبوك يسخرون من أكاذيب العدوّ، فيما كان العرب حتى الستينيات والسبعينيات يتعاملون على أساس أن العدوّ لا يكذب (ساهم في نشر تلك المفاهيم النظريّات الاستشراقيّة العربيّة والغربيّة والتي أسقطت تعميمات عنصريّة وغير علميّة على العرب، مثل كتاب صادق جلال العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة» وغيره من الكتب التي عملقت العدوّ، عن قصد وعن غير قصد، ببراءة وبغير براءة). 4) باتت دراسة العدوّ علماً قائماً بذاته تتقنه فصائل المقاومة، وخصوصاً حزب الله وبعض فصائل المقاومة في فلسطين. (من لم يزر «مليتا» بعد؟) إن الجهل بالعدوّ أدّى إلى المبالغة في قدراته وفي نجاحاته. والفضل في دراسة العدوّ العلميّة يعود إلى مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة وإلى مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت (والأوّل تأسس في الستينيات). المركزان كانا رائدين في دراسة الاحتلال وتوثيق جرائمه. 5) قدّمت تجربة حزب الله في حرب العصابات في التسعينيات وفي المواجهة المباشرة عام 2006 درساً بليغاً لكل فصائل المقاومة في فلسطين وفي العالم العربي. كسر حزب الله بصموده وبقصفه لمواقع إسرائيليّة سطوة العدوّ وأسطورة قدراته الخارقة. 6) إذا كان أنور السادات يقول إن الصراع مع العدوّ هو بسبب حاجز نفسي، فالحاجز النفسي هو الذي خدم العدوّ أيضاً على صعيد التقليل من قدرة العرب على المواجهة وعلى إفشال مخطّطات العدوّ العسكريّة والإرهابيّة. 7) وعت حركة المقاومة، وخصوصاً في حزب الله، أهميّة حماية صفّ الجناح العسكري والاستخباري من الاختراق، وكان الاختراق من أهم وسائل العدوّ ضد حركة «فتح» وضد كل التنظيمات الفلسطينيّة واللبنانيّة المقاومة أثناء سنوات الحرب قبل 1982. حصّنت فصائل المقاومة صفوفها، ولم يستطع العدوّ خلال حرب تمّوز الوصول إلى عنصر قيادي واحد في حزب الله. لم تصل حركة «حماس» و«الجهاد» إلى درجة شبه مناعة حزب الله، لكنها تطورّت مع أن اغتيال الجعبري كان دليلاً على اختراق. 8) إن الأداء القتالي لجنود العدوّ في تناقص وانحدار لأن الجيل الأوّل من الإسرائيليّين كان ملتزماً بصورة حديديّة قضيّة إنشاء الكيان والدفاع عنها. أما الآن، فإن الجيل الحالي من الجيش الإسرائيلي الإرهابي لا يعبّر عن الالتزام الأيديولوجي نفسه، وخصوصاً أن العناصر المهاجرة من أوروبا الشرقيّة ليس لديها دافع عنصر الدين أو القوميّة كما كان سائداً في الجيل المؤسّس. 9) من الممكن أن يقود خالد مشعل حركة «حماس» باتجاه تسووي، كما فعل عرفات بالنسبة الى «فتح»، لكن هذا لن يقضي على مسار الثورة الفلسطينيّة. تندثر منظمات وتذوب في التسويات التصفوويّة وترثها منظمات جديدة تعيد الكرّة الثوريّة. للشعب الفلسطيني القدرة الخلاقة على تجديد قياداته ومنظماته بما يلائم الحاجة الثوريّة التحريريّة. 10) قلّت خيارات العدوّ. حيله معروفة ومعزوفاته الدمويّة والدعائيّة مُكرّرة. كانت إسرائيل تحظى بتأييد الشعوب والحكومات في الغرب، وهي الآن تحظى بتأييد الشعب والحكومة في أميركا وحدها. صحيح أن أميركا تؤثّر على السياسات الخارجيّة لفرنسا وألمانيا وبريطانيا، لكن الشعوب في تلك الدول متعاطفة مع قضيّة الشعب الفلسطيني. حتى داخل الحزب الديموقراطي في أميركا (على عكس قياداته) قلّت نسبة تأييد حروب إسرائيل، وهو في حرب غزّة بنسبة 40% (وهي نسبة متدنيّة بالمعيار الأميركي حيث تفوق نسبة تأييد قاعدة الحزب الجمهوري الـ70 %). 11) يعتمد الأداء الدعائي للعدوّ على المبالغة والكذب والتناقض إلى درجة أنه يذكّر بالإعلام العربي الذي سبق النكسة. تقرأ مثلاً عن «القبّة الحديديّة» التي روّج لها الإعلام الغربي والعربي على حدّ سواء. تتمعّن في ما قيل فيها، فتجد أرقاماً ونسباً مختلفة عن نجاحها المزعوم. خبير عسكري إسرائيلي يقول إن نسبة النجاح كانت نحو 70%، فيردّ آخر بأنها فاقت الـ80%، وآخر يصرّ على أنها بنسبة 90% (وهذه الأرقام موجودة في بحث على «غوغل»). أما إيهود باراك فقال إن نظام «القبّة الحديديّة» «بلغ حدّ الكمال تقريباً». ولكن كيف يكون الكمال تقريبيّاً؟ والولايات المتحدة وإسرائيل كذبتا عام 1991 عن نسبة نجاح نظام الـ«باتريوت».
إن هذه الحرب مفصل هام آخر في تاريخ الصراعات مع العدوّ. لا بدّ للذي عاش وواكب الحروب العربيّة _ الإسرائيليّة منذ 1967 أن يلاحظ أن أداء العدوّ في تقهقر، وأن أداء المقاومة العربيّة في اطّراد ونموّ دراماتيكي. المستقبل لفلسطين لا لغزاتها.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)