في مبنى «صحيفة تشرين»، ظهيرة يوم قائظ من تموز (يوليو) أواخر السبعينيات، تعرّفت إلى الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين (1954-1982) ببساطة تشبهه تماماً. في باص النقل الداخلي الذي صعدناه معاً، لم يتح لنا الزحام مقعدين شاغرين. في الممر حدثني بألم عن جريمة قتل امرأة، وُجدت جثتها عند سكة قطار، وهو يشير إلى صورتها في الجريدة. في حانة «اللاتيرنا» التي كانت تجمع مثقفي دمشق حينذاك، أخبرني عن قرب صدور مجموعته الشعرية الأولى «خراب الدورة الدموية» (1979). كان يكتب ما يريد قوله على ورقة صغيرة، وكان عليّ أن أجيبه بالكتابة أيضاً، ذلك أن رياض الصالح الحسين، فقد النطق والسمع تقريباً، مطلع فتوته المبكّرة «أكتب لي بقلم الرصاص على ورقة/ بإصبعك على راحة يدي/ بعود كبريت على طلاء الجدار/ اكتب لي أرجوك» يقول. اللقاءات شبه اليومية، أطاحت الورقة البيضاء والقلم تدريجاً. كنت أنصت إليه، ثم أكتب عبارة مختزلة على طرف جريدة ، أو في الهواء، ولاحقاً كانت حركة الشفاة تكفي لالتقاط العبارة. المسافة بين القبو الذي أقطن في المزرعة، وغرفته في الطبقة الثانية من بيت دمشقي قديم في حي الديوانية، لا تحتاج إلى أكثر من عشر دقائق، مشياً على الأقدام.
كنت ألقي حصاة صغيرة إلى شباك غرفته المطلة على الزقاق الضيّق، فيهرول نحو الباب، في حال غياب المستأجرين الآخرين. كان البيت غرائبياً مثل قاطنيه. تونسيون وعراقيون وسوريون يشقون طريقهم إلى الأضواء. الغرفة التي يقطنها رياض، قبالة الدرج الخشبي تماماً، كان قد سكنها قبله المخرج المسرحي الراحل فواز الساجر. سرير ومكتبة وكرسيان. على الجدار لوحة لمنذر مصري بالأبيض والأسود، وحفنة من الياسمين في كأس على الطاولة، فهو اعتاد أن يقطف الياسمين في طريقه إلى البيت. في هذه الغرفة التقيت يوسف عبد لكي وجميل حتمل وهالة العبدالله، للمرة الأولى. أحاول أن استعيد هذا الشريط، في مناسبة مرور 31 عاماً على غياب صاحب «أساطير يومية» (1980)، الشاعر الذي عبر كشهاب خاطف، في فضاء الشعرية السورية الجديدة، وترك حبره طازجاً إلى اليوم على تجارب الثمانيين وما بعدهم، مثلما فعل شاعر استثنائي آخر هو محمد الماغوط. أربع مجموعات شعرية، هي حصيلة هذا الشاعر الذي كان يكتب بغزارة، بما يوازي شغفه بالحياة، كان آخرها «وعل في الغابة» (1983) التي صدرت بعد رحيله. سنقرأ قصائده «عن الموتى» ونكتشف مرّة أخرى، بأنه كان يرثي نفسه أولاً. محاولة طبع أعماله الكاملة، ضمن منشورات وزارة الثقافة في دمشق، عرقلها بعض مستشاري الوزارة الألمعيين. أغلب الظن أنّ هؤلاء المستشارين لم يقرأوا ميراث رياض الصالح الحسين جيداً، لكنّ آخرين تمكنوا من جمع دواوينه، ونشرها كاملةً، في موقع الكتروني يحمل اسمه، فيما أفردت الشاعرة سوزان عليوان أيقونة خاصة بأعماله على موقعها الشخصي، كما سنجد بعضاً من نصوصه مبثوثة على الفايسبوك، بوصفها نصوصاً مكتوبة عن اللحظة السورية الراهنة، قبل أن تقع بثلاثة عقود. هكذا نقرأ مراراً «ثمرة ثمرة، تقطفين أيامي، يا بلادي الجميلة، فاستمع: لا أحد يغنّي سوى الساطور». أما قصيدته «يا سورية»، فتحضر، كما لو أنها بيان: «يا سورية الجميلة السعيدة/ كمدفأة في كانون/ يا سورية التعيسة/ كعظمة بين أسنان كلب/ يا سورية القاسية/ كمشرط في يد جرّاح/ نحن أبناؤك الطيبون/ الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك/ أبداً سنقودك إلى الينابيع/ أبداً سنجفّف دمك بأصابعنا الخضراء/ ودموعك بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشقّ أمامك الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سورية/ كأغنية في صحراء». مهارة البساطة وحدها، هي من أنعش أوكسجين نصوص هذا الشاعر الذي أضفى بريقاً خاصاً على ماسمّي قصيدة التفاصيل اليومية، لكن رياض الصالح الحسين خلافاً لمقلديه، كان يكتب أوجاعه الشخصية في المقام الأول، ومكابداته كعاشق، قبل أن ينطفئ بنوبة فشل كلوي في مشفى المواساة في دمشق، أواخر العام 1982، إثر قصة حب عاصفة، كادت تودي به إلى الانتحار أكثر من مرّة.