صنعاء | على غرار زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي، واجه علي عبد الله صالح مطلع 2011 ثورة شعبية في إطار موجة الربيع العربي أطاحته من الرئاسة، لكنه حاز مصيراً مختلفاً ومميزاً بين مصائر نظرائه الثلاثة، أجلسه بينهم جميعاً في وضع المحظوظ. في تونس، نُفي بن علي وعائلته إلى المنفى، وزجّ بحسني مبارك وأبنائه في مصر في السجن، وانتهى ليبياً بمقتل معمر القذافي، في حين اتخذ التغيير في اليمن منحى آخر مختلفاً تماماً من خلال التسوية السياسية في إطار ما يسمى اتفاقية المبادرة الخليجية التي منحت صالح وأفراد عائلته وأركان نظامه الحصانة من أي ملاحقة قضائية كمخرج آمن ومشرّف من السلطة دون أن يخرجوا من السلطة فعلاً. فصالح غادر الرئاسة ولكنه لم يغادر السلطة بعد. وهو أصبح رئيساً سابقاً ولكنه بات يسمى «الزعيم». وحتى بعد عام من انطلاق مهمة حلحلة قبضته التي كانت ممسكة بالجزء الأكبر والأهم من الجيش والأمن، إلا أنه لا يزال رئيساً لحزبه الذي يتحكم نظرياً في نصف العملية الانتقالية. ولا يزال وجوده شخصياً في البلاد مثيراً للجدل ونقطة إرباك للمجتمع الدولي. ويصعب التنبّؤ بالوقت الذي سيستمر فيه هذا الوضع حتى في ظل الضغوط الدولية المتواصلة عليه للتنحّي عن رئاسة المؤتمر ومغادرة البلاد. هذه الضغوط كانت واضحة في حديث السفير الأميركي في اليمن، جيرالد فايرستاين، قبل فترة وجيزة. الأخير قال في مؤتمر صحافي إن «الرئيس السابق علي عبدالله صالح لن يعود إلى قيادة اليمن. فترته في القيادة انتهت، وأصبح من الماضي»، مشيراً إلى أنه «ليس هناك أي دور يلعبه صالح في صنع مستقبل اليمن».
إذا كان هناك عدة رجال في صنعاء يتعيّن أخذ حديثهم عن راهن ومستقبل الوضع في اليمن اليوم بعين الاعتبار، فإن فايرستاين في مقدمتهم. فهو، كممثل لبلاده، يلعب دوراً رئيسياً في توجيه مسار المرحلة الانتقالية في اليمن وتقرير مصير صالح. غير أن كلامه عن انتهاء حقبة صالح القيادية وعدم وجود دور له في صناعة مستقبل البلاد لا يبدو توصيفاً لواقع قدر ما يبدو تطميناً إلى أن الوضع الراهن الذي لا يزال صالح يلعب فيه دوراً غير خفي لن يستمر في المستقبل. فما لا يجب إغفاله أن حزب المؤتمر الشعبي، الذي يرأسه صالح، هو أحد طرفي التسوية السياسية إلى جانب تكتل أحزاب «اللقاء المشترك» الموقّعين على المبادرة الخليجية. وكما تقاسما الحكومة الانتقالية، يمتلك الطرفان أكبر حصتين في عضوية مؤتمر الحوار الوطني المرتقب. ولا شك في أن فايرستاين يعرف، أكثر من سواه، أن صالح هو صانع القرار الأول في حزبه، ولعل هذا هو السبب الرئيسي وراء الضغوط الدولية المستمرة لإقناع الرجل بالتخلي عن رئاسة المؤتمر ومغادرة البلاد.
مع ذلك، لا تبدو نتيجة هذه الضغوط إيجابية. فمصادر مقرّبة من صالح نفت، في تصريحات إلى «الأخبار»، أن يكون تخلّي صالح عن رئاسة المؤتمر ومغادرته البلاد مطروحين على طاولة الرئيس السابق. وأكدت، شريطة عدم الكشف عن هويتها، أن السفير الأميركي يسعى فعلاً لإقناع صالح بالتخلي عن الحزب والمغادرة، لكن الأخير «ليس ملزماً بالاستجابة لهذه المساعي»، ولا سيما «في ظل حاجة حزبه إلى وجوده». وكشفت المصادر عن أن صالح نقل مكتبه الذي سيدير منه حزبه أخيراً إلى منطقة حدة جنوب العاصمة، وأن عملية تجهيز المكتب جارية الآن.
كذلك فإن في تصريحات السفير الأميركي نفسه ما يناقض تأكيداته نهاية قيادة صالح ويعزز تصريح المصادر المقربة من الأخير. ففايرستاين، الذي قال إن لديه معلومات عن موافقة السعودية على استضافة صالح لاستكمال العلاج _ واستكمال العلاج هي الصيغة المهذبة لمغادرته البلاد _ تابع أنه يأمل «في أن يظهر الرئيس السابق الحكمة تجاه الفرصة التي منحت له للخروج الآمن من السلطة»، وأن «على حزب المؤتمر الشعبي العام أن يقرر إذا ما كان يريد أن يكون حزباً للمستقبل أو للماضي».
يبقى أن صالح ما كان ليتمتع بهذه الثقة للمناورة لولا الاتفاقية الخليجية التي لم تفض إلى تغيير كامل لنظام حكمه بقدر ما يبدو أنها أفضت إلى إعادة إنتاجه من خلال إعادة ترتيب أوراقه وتنظيمها، مع الاكتفاء بتغيير صالح وتحجيم نفوذه الشخصي والعائلي داخله. وهذه مهمة تولاها الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي.


مراحل تفكيك النفوذ

منذ انتخابه في 21 شباط الماضي خلفاً لصالح، أمضى هادي نصف فترة رئاسته الانتقالية، مدتها عامان، في حلحلة قبضة سلفه وعائلته على مؤسسات الدولة المختلفة.
في 1 آذار من العام الماضي، أي بعد أسبوع فقط من انتخابه، أصدر هادي أول حزمة من قرارات الهيكلة تضمنت قراراً أطاح قائد المنطقة الجنوبية اللواء مهدي مقولة، الذي يعدّ أحد كبار القادة العسكريين الموالين لصالح، وينتمي إلى قريته نفسها (خارطة اليمن العسكرية تنقسم إلى خمس مناطق: الجنوبية، الشرقية، الوسطى، المركزية، والشمالية الغربية).
بدا لوهلة أن عجلة الهيكلة بدأت بالدوران بسرعة ولن تتوقف، لكن سرعان ما بدأت الأخبار السيئة تدور معها: انهار عدد من الألوية التابعة للمنطقة الجنوبية في أبين أمام مقاتلي تنظيم القاعدة. يومها، توجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى صالح وقائد المنطقة الجنوبية المقرّب له بتسليم القاعدة هذه المواقع ومعداتها رداً على القرار.
أثّرت النتائج السلبية لقرارات آذار كما يبدو على وتيرة دوران عجلة الهيكلة، حيث لم تأت خطوة هادي التالية إلا بعد نحو خمسة أسابيع، ولكنها حملت خبراً أسوأ وأشد وطأة على صالح وعائلته. ففي 7 نيسان، أطاحت حزمة القرارات الجديدة عدداً من القيادات المنتمية إلى عائلة صالح، كأخيه غير الشقيق محمد صالح الأحمر الذي أقيل من قيادة القوات الجوية، وابن شقيقه طارق محمد عبدالله صالح من قيادة اللواء الثالث حرس، الذي يعدّ أحد أقوى ألوية المدرعات في قوات الحرس الجمهوري. ويتولى العميد أحمد علي عبدالله صالح، أكبر أبناء صالح، قيادة الحرس الجمهوري الذي يعدّ القوة الضاربة في الجيش اليمني منذ نحو عقد، لكنه ليس الوحيد من أبنائه الذي يحتل منصباً عسكرياً.
خالد علي عبدالله صالح، الذي تولّى بعد تخرّجه في إحدى الأكاديميات العسكرية البريطانية قيادة اللواء الثالث التابعة لقوات «فرقة مشاة جبلي» الحديثة التشكيل، أقيل هو الآخر بقرار ضمن الحزمة نفسها التي حملت قراراً آخر أطاح قائد القوات البحرية اللواء رويس عبد الله علي مجوّر، من الموالين لصالح. وشملت هذه الحزمة بعض القادة العسكريين الذين انشقوا عن صالح وأيّدوا الثورة، وتحديداً قائدي المنطقة الشرقية اللواء محمد علي محسن الأحمر، والمنطقة الوسطى العميد محمد علي المقدشي.
مثلت هذه الحزمة ضربة كبيرة لسلطة صالح داخل الجيش، وربما لهذا أتت استجابته لها سلبية. رفض قائد القوات الجوية الانصياع للقرار الجمهوري، ووجّه أنصاره إلى تنفيذ احتجاجات داخل قيادة القوات الجوية، ونشر مسلحين قبليين من أنصاره حول مطار صنعاء الدولي المتاخم لمقر قيادته، ما أدى إلى إغلاقه أمام حركة الطيران يوماً كاملاً.
كانت هذه أول حالة تمرّد تواجهها قرارات الهيكلة، واستمرت حتى 24 من الشهر نفسه، حين رضخ محمد صالح الأحمر للأمر الواقع تحت الضغوط الدولية وسلّم القيادة لخلفه بحضور ممثلين دوليين في مقدمتهم مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر.
ولم تكن هذه حالة التمرد الوحيدة التي واجهتها حزمة القرارات الثانية. فقرار إقالة ابن شقيق صالح من قيادة اللواء الثالث حرس الذي يهيمن على العاصمة صنعاء، واجه حالة تمرد مماثلة بعد منع قادة وحدات اللواء القائد الجديد من تولّي منصبه، فيما تفاوض رعاة المبادرة الخليجية مع صالح من أجل تسليم اللواء. وهو ما تم في 3 أيار بحضور بن عمر أيضاً.
استحواذ صالح لم يكن فقط على مؤسسات الجيش، بل على المؤسسات الأمنية أيضاً. وهو ما سلّطت حزم قرارات الهيكلة التالية الضوء عليه. في 21 أيار الماضي، أطاحت حزمة قرارات ثالثة ابن شقيق صالح العميد عمار محمد عبدالله صالح من منصب وكيل جهاز الأمن القومي «الاستخبارات». ولم يكن طارق وعمار الوحيدين بين أبناء الشقيق الراحل اللذين يتوليان مناصب عسكرية وأمنية رفيعة ومؤثرة في نظام حكم عمهم. فأخوهما الأكبر العميد يحيى صالح تولى هو الآخر رئاسة أركان قوات الأمن المركزي. ورغم أنه لم يخلف والده في قيادة الأمن المركزي التي كان يشغلها قائد آخر مقرّب من صالح هو اللواء عبدالملك الطيب، إلا أن يحيى ظل يعتبر القائد الفعلي للأمن المركزي في ظل النظر إلى الطيب كقائد شكلي (ظل يحيى في موقعه حتى إقالته في كانون الأول الماضي).
قبضة صالح العائلية لا تتكون من دائرة الأبناء والإخوة وأبنائهم فحسب، بل من دوائر المصاهرة أيضاً. فقائد قوات النجدة اللواء محمد عبدالله القوسي متزوج من إحدى بنات شقيق صالح الأكبر، وقد أطاحت حزمة القرارات الثالثة هذا القائد من موقعه أيضاً.
ولأن قبضة صالح العائلية لم تكتف بالإمساك بالمؤسسات العسكرية والأمنية فقط، امتدت قرارات هادي لتشمل أقارب صالح في مؤسسات الدولة المختلفة. فشركة التبغ والكبريت كان يرأسها ابن شقيق آخر لصالح هو توفيق صالح عبدالله صالح. والمؤسسة الاقتصادية اليمنية، وهي أضخم مؤسسة إيرادية تابعة للدولة، كان يرأس مجلس إدارتها رجل آخر تربطه علاقة مصاهرة بعائلة صالح، هو حافظ معياد. وكلاهما، توفيق صالح ومعياد، أقيلا من موقعيهما بالحزمة الثالثة نفسها التي لم تلقَ عصياناً أو تمرداً.
لكن هذا لا ينطبق على الحزمة التالية التي تأخرت قرابة 3 أشهر. ففي 19 آب، قضت حزمة قرارات رابعة بفصل عدد من الألوية الواقعة تحت إمرة نجل صالح أحمد، كاللواء الثاني مشاة جبلي في أبين، ونقل تبعيتها إلى قيادات أخرى داخل الجيش من خارج العائلة. واجهت هذه الحزمة حركات عصيان وتمرد مختلفة من قبل أفراد محسوبين على هذا اللواء وصلت إلى حدّ محاولة الاستيلاء على وزارة الدفاع.
حاولت قيادة الحرس الجمهوري التهرّب من المسؤولية، لكن أحكام القضاء العسكري الصادرة لاحقاً ضد أكثر من 90 متمرداً، أكدت انتماء المتمردين إلى الحرس الجمهوري.
بدت هذه أخطر عملية تمرد تواجه قرارات هادي، لكنها بدت كما لو أنها ستكون الأخيرة في سجل العراقيل الخاصة بصالح وعائلته. ففي 11 أيلول الماضي، أصدر الرئيس الانتقالي حزمة قرارات خامسة أزاحت عدداً آخر من رجالات سلفه، كاللواء علي الآنسي من رئاسة جهاز الأمن القومي «الاستخبارات» ومنصب مدير مكتب رئاسة الجمهورية، والعميد مجاهد غشيم من منصب مدير الاستخبارات العسكرية دون أن تلقى عراقيل. وفي 19 كانون الأول المنصرم، صدرت آخر حزمة قرارات، كانت بمثابة الخطوة الأكبر والأهم على طريق إعادة الهيكلة حتى الآن، ومثلت في الوقت نفسه أكبر وأخطر عملية تفكيك يتعرض لها نفوذ صالح وعائلته داخل الجيش والأمن. فقد أزاحت نجله أحمد من قيادة القوات الخاصة التي تعدّ قوة ضاربة وجرّدته من ألوية الصواريخ وعدد من الألوية الضاربة في قوات الحرس الجمهوري. كذلك أطاحت ابن شقيقه العميد يحيى محمد عبدالله صالح من رئاسة أركان قوات الأمن المركزي. وقد انصاع كلا القائدين لقرارات هادي بشكل لافت، ما يشير إلى أن الضغوط الدولية، فضلاً عن الإجراءات القضائية ضد منفّذي محاولة الاستيلاء على وزارة الدفاع، قد تجعل من محاولة التمرد تلك الأخيرة في سجل صالح وعائلته، مع بقاء الوضع مفتوحاً على احتمالات أخرى طبعاً.
وبصدور الحزمة السادسة من القرارات، بدا من الواضح أن صالح سلم بأن سيطرته العائلية المطلقة على المؤسسات العسكرية والأمنية أصبحت جزءاً من الماضي. غير أن هذا لا يعني نهاية العراقيل والتمردات في طريق هادي وقرارات الهيكلة، بقدر ما بدا أنها شكلت بداية عراقيل وتمردات جديدة من قبل الطرف العسكري والأمني الآخر في البلاد المتمثل في عدد من شركاء صالح التاريخيين الذين أعلنوا انشقاقهم عنه وتأييدهم للثورة إثر انطلاقها مطلع 2011، وفي مقدمتهم قائد الفرقة الأولى مدرع اللواء علي محسن الأحمر الذي يحول اليوم دون استكمال صدور بقية قرارات الحزمة الأخيرة وتحديد مصير قيادة أحمد علي للحرس الجمهوري بصورة واضحة. ويخشى من أن يشكل بقاء الأحمر في الجيش باباً مفتوحاً لبقاء مستوى ما من نفوذ صالح العائلي داخل الجيش.
فرغم أن عملية الهيكلة حلحلت استحواذ صالح العائلي، لم تنهِ وجوده في هاتين المؤسستين بشكل تام. لقد اقترنت قرارات إقالة القادة العسكريين والأمنيين غالباً بقرارات تعيد تعيينهم في مواقع أخرى داخل هاتين المؤسستين.
مع هذا، يتلقّى اليمنيون قرارات الهيكلة بترحاب، باعتبار أن رجال صالح نقلوا إلى مناصب إدارية ليس لها تأثير على صنع القرار العسكري. يبدو هذا صحيحاً، لكن هذا الواقع يضع اليمنيين وجهاً لوجه أمام الطبيعة المختلة والناقصة للتغيير الذي فرضته الاتفاقية الخليجية في اليمن.



مواقع ثانوية

في إطار إعادة تعيين القادة العسكريين المقرّبين من علي عبد الله صالح في مواقع أخرى ثانوية في الجيش، أقيل قائد المنطقة الجنوبية اللواء مهدي مقولة من قيادة المنطقة الجنوبية ليجري تعيينه نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة للقوى البشرية. والأخ غير الشقيق لصالح محمد صالح الأحمر أقيل من قيادة سلاح الجو ليعيّن مساعداً لوزير الدفاع لشؤون التصنيع العسكري.
كذلك أقيل اللواء محمد علي محسن من قيادة المنطقة الشرقية ليعيّن نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة للقوى البرية.
وضمن الحزمة نفسها، أقيل العميد طارق محمد صالح من قيادة اللواء الثالث حرس وعيّن قائداً للواء 37 مدرع مكان خلفه، لكنه اعتذر عن تولّي المنصب. وسارت القرارات اللاحقة غالباً على المنوال نفسه وصولاً إلى الحزمة الأخيرة التي لا تزال بعض قراراتها معلقة. ومن المتوقع أن القرارات المرتقبة ستصدر بإقالة أحمد علي صالح وعلي محسن الأحمر من موقعيهما ليُعيّنا في مواقع بديلة.