لم تحصد خطب يوم الجمعة الفائت الاهتمام الإعلامي اللازم. مواقف رجال الدين، الذين رفضوا الزواج المدني ضاعت في زحمة الأخبار الأمنية التي تخبّط فيها لبنان في ذلك اليوم تحديداً. كان لافتاً أن تغفل تلك الخطب ما حصل في سجن رومية، بعد الكشف عن جريمة قتل المسجون غسان القندقلي، على أيدي موقوفين إسلاميين لم تملّ دار الفتوى من المطالبة بإنصافهم. لم يأت الخطباء على ذكر الآية القرآنية: «من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً» (سورة المائدة، الآية 32)، اللهم إلا إذا كان القتلة قد حصلوا على فتوى تجيز لهم ارتكاب جريمتهم. فتوى بـ«الردّة» مثلاً، كالتي أطلقها أمس مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني، وسبقه إليها أئمة المساجد الذين عمّمت دار الفتوى مواقفهم إعلامياً.
مواقف ضاعت يوم الجمعة، فكان لا بدّ من إعادة إحيائها بموقف صارخ وصادم. وكأن ما قيل عبر مكبرات الصوت ذلك اليوم لم يكن كافياً. فلنتذكر. هذا المدير العام للأوقاف الإسلامية الشيخ هشام خليفة يرى في مجرد «طرح» مشروع الزواج المدني حالياً «إثارة فتنة جديدة تضاف إلى سائر الفتن والمشاكل التي يتعرّض لها لبنان». أما عضو المجلس الإداري للأوقاف الإسلامية، الشيخ أحمد البابا، فكان حازماً في دعوة المسؤولين إلى «طيّ هذا الملف إلى الأبد»، مؤكداً أن هذا المشروع، إجبارياً كان أو اختيارياً «لن يمرّ وفي البلاد مسلم واحد». ولم يتردّد في القول إن «من يعتقد أن الزواج المدني أفضل من الزواج الشرعي، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله، وهو خارج عن ملّة الإسلام».
هكذا، بعبارة واحدة، يقرّر إمام مسجد أن يخرج المسلمون من دينهم. لم يكن ما قاله زلّة لسان؛ فها هو مفتي الجمهورية، يفتي أمس، إثر اجتماع استثنائي بـ«أن كل من يوافق من المسؤولين المسلمين في السلطة التشريعية والتنفيذية في لبنان، على تشريع وتقنين الزواج المدني، هو مرتدّ وخارج عن دين الإسلام، ولا يغسّل ولا يكفّن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويحمل أوزار كل الذين يدخلون في هذه العلاقة غير المشروعة من أبناء وبنات المسلمين إلى يوم القيامة».
نفهم أن يرفض المفتي قباني، وأئمة المساجد، الزواج المدني. أن يعملوا على منع إقراره بما أنهم مقتنعون بأن هذا الأمر يهدّد عقيدتهم. لكن أن يصل الأمر إلى التكفير؟ الاتهام بالردّة؟
المجتمعون في دار الفتوى أمس لم يكتفوا بهذه الفتوى التكفيرية، التي لا تستند برأي عدد من علماء الدين الذين استطلعتهم «الأخبار» أمس إلى أي دليل علمي. بل قرّروا إبقاء جلساتهم مفتوحة للحدّ من «خطورة إقرار الزواج المدني»، احزروا تتمة الجملة؟ «الاختياري». نعم، في الإسلام القائل إنه «لا إكراه في الدين»، يكون كلّ مسلم يختار الزواج مدنياً، بحسب قباني، مرتدّاً!
فتوى رفض المحامي طلال الحسيني التعليق عليها أمس، مفضلاً قراءتها بدقة على أن يدلي بموقفه منها اليوم لكنها تطرح مجموعة من الأسئلة: أليس المجتمعون رجال الدين، ويعرفون معنى الردّة في الإسلام؟ ألا تسمّى فتواهم هذه فتنة؟ أوليست «الفتنة أشدّ من القتل» كما جاء في القرآن؟ ألا يعدّ إخراج مسلمين من دينهم هدراً لدمائهم؟
أم أنهم يعرفون كلّ هذا، لكنهم رأوا أن «خطورة الزواج المدني على الإسلام» تستدعي هذا الحكم القاسي؟ تستدعي الترهيب؟ الترهيب إلى حدّ أن المكتب السياسي لـ«حزب النجادة»، (لمن يعرفه)، «توافق» إثر اجتماع عقد في دار الفتوى بين قباني ووفد من الحزب الأسبوع الفائت «على أن الزواج المدني هو تشريع للزنى». ومن يرفضه يستحق الإشادة به، مثل رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، الذي حاز أيضاً إشادة من جبهة العمل الإسلامي.
وكأن ميقاتي كان يعي أنه برفضه طرح الموضوع على طاولة مجلس الوزراء في الجلسة الأخيرة إنما كان يقوم بواجبه كمسلم ملتزم، بما أن قباني أفتى أمس أيضاً بأنّ «إسقاط هذا الزواج هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة»، تماماً كالجهاد؟
لا غرابة في الأمر. فها هو ميقاتي يسير على درب أسلافه. نحن الذين صدّقنا على مدى خمسة عشر عاماً، أن الرئيس الراحل رفيق الحريري هو من عطّل الزواج المدني في لبنان رغم تصويت مجلس الوزراء عليه. كان يجب أن ننتظر الخطوة الجريئة التي قام بها نضال درويش وخلود سكرية، لنكتشف خطأ اعتقادنا. لنعرف أن الحريري، أسطورة لبنان الحديث، لم يكن البطل المنشود، وأنه لا يختلف عن أي شخص يحتلّ، وسيحتلّ، موقعه: «الكرسي الثاني في الدولة اللبنانية» وفق قاموس دولة المؤسسات، و«رئاسة الطائفة السنيّة» وفق اللغة المحكية.
أعلنها ميقاتي حاسمة، وبفجاجة. هو لن يتعاطى بموضوع الزواج المدني. موقف جعله يحوز تنويه أئمة المساجد، بعد أيام معدودة من حصوله على إعجاب النساء المطالبات بحقهنّ في منح جنسيتهنّ لأطفالهنّ من زوج أجنبي. وحاز إعجاب أبناء طائفته؛ لأنه رفض القانون الانتخابي الأرثوذكسي.
في كلّ مرة، كانت للرئيس ميقاتي حجة. القانون الأرثوذكسي «يزيد الانقسام بين اللبنانيين»، أما دعم المرأة في معركتها للحصول على جنسية لأطفالها، فهذا «حق»، متجاهلاً أن هذين الملفين يقضّان مضجع المسيحيين. في المقابل، هو ضدّ الزواج المدني؛ «لأن هذا ليس وقته». فلنحاول أن نفهم. زيادة الانقسام بين اللبنانيين حجة، على ضعفها، تبقى مقنعة. حق المرأة، حجة مقنعة. ماذا عن «هذا ليس وقته؟». لم لا يكون هذا وقت الزواج المدني، لكنه وقت إعطاء المرأة حقها بالجنسية؟
لا منطق علمياً يمكنه أن يفهم هذه المواقف المتناقضة. هو المنطق الطائفي وحده الذي يحكم قرارات رئيس حكومة بلد يضمّ 18 طائفة. المنطق نفسه الذي تحكم بالرئيس رفيق الحريري ومنعه من السير في قانون الزواج المدني عندما طرحه الرئيس الياس الهراوي. وأيضاً، الذي كان للرئيس رشيد كرامي موقف مماثل منه، كما جاء في وقائع جلسة الثقة لحكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1969 (http://www.ketleh.org/?page_id=479). في تلك الجلسة، تساءل عميد الكتلة الوطنية ريمون إده عن «محمدي واحد» يوافق على مشروع قانون الزواج المدني الموجود في مكتبه. قال له كرامي يومها: «الزواج المدني ضد القرآن، ولن يمشي». فقال إدّه: «بعد كلام دولة الرئيس رشيد كرامي، سأبقي مشروعي في الدرج لأني لا أريد أن أعمل مشكلة ». تدخل يومها النائب أحمد إسبر موضحاً أن «الإفتاء ليس وقفاً على الأفندي ابن المفتي السابق، فالشرع ممكن أن يعرفه غيره من المسلمين الذي اعتنقوا دينه، الزواج الإسلامي هو بحد ذاته زواج مدني، لأنه كناية عن عقد بين الرجل والمرأة، وليس ضرورياً أن يكون كاتب هذا العقد رجل دين، بل بإمكانه أن يكون موظفاً مدنياً».
بعد نقاش، قال إدّه: «فلنبق عائشين مثل ما كنا عائشين على أساس الطائفية والمباراة».
عبارة قالها العميد عام 1969. يكرّرها زعماؤنا اليوم، من دون أي أسف.