احتاج الأمر إلى نحو خمس سنوات لتقرر تل أبيب أن الخط الأحمر الذي ملأت الدنيا صراخاً بأن اجتيازه ممنوع، كان على وشك أن يُعبر أول من أمس. في الأدبيات الإسرائيلية ذات الصلة بالجبهة الشمالية، يُقصد بالخط الأحمر نقل أسلحة استراتيجية «كاسرة للتوازن» من مخازن الجيش السوري إلى حزب الله. أما إعلان منع الاجتياز، فيعني الاستعداد الدائم لتحرك عسكري وقائي يجهض عملية النقل في مهدها أو إبان حصولها. وهذا، وفقاً لإجماع التسريبات الإعلامية، ما تحقق ليلة الثلاثاء إلى الأربعاء.
وأياّ تكن هوية الهدف الذي أغارت عليه المقاتلات الإسرائيلية وطبيعته، فإن الثابت في ما جرى أن تل أبيب نفذت اعتداء جوياً في عمق الأراضي السورية ضد هدف يتصل بقدرات المقاومة. هذا ما أكدته التسريبات التي أشارت إلى منظومة دفاع جوي حديثة الطراز تشكل، بحسب صحيفة هآرتس، «تغييراً في موازين القوى الإقليمية»، في ما لو وضع حزب الله يده عليها. وهذا أيضاً ما تبنّته القيادة السورية حين أعلنت أن المنشأة التي تعرضت للاستهداف مسؤولة عن «رفع مستوى المقاومة والدفاع».
فإسرائيل التي باتت معزوفتها المفضلة خلال الأعوام الماضية، تحديداً منذ ما بعد عدوان تموز 2006، تقتصر على التهديد والوعيد من مغبة امتلاك حزب الله لأسلحة استراتيجية، هي إسرائيل نفسها التي أقرّت قبل أشهر وسنوات على لسان أرفع مسؤوليها المعنيين بأن السيف قد سبق العذل، وأن كل ما كانت تخشاه على هذا الصعيد أصبح واقعاً محكوماً عليها التعايش معه. لنراجع على سبيل المثال، تصريح القائد السابق للمنطقة الشمالية، يائير غولان، في مقابلة مع صحيفة «إسرائيل اليوم» بتاريخ 6/ 4/ 2012 الذي جاء فيه ما حرفيّته: «ما يوجد لدى حزب الله اليوم يقض مضاجعنا. ووفقاً لإدراكنا، كل ما عدا السلاح الكيميائي، مهما بلغ مستوى تطوره، قد تم نقله إلى حزب الله».
إذا كان الأمر كذلك، أي إذا كانت الفرضية العملانية الإسرائيلية تنهض على مقومات مفادها أن ما في حوزة الحزب هو بالضبط ما كانت تخشى إسرائيل أن يصل إليه، يطرح السؤال نفسه حول خلفية ما فعلته إسرائيل حقّاً في عدوانها أول من أمس على سوريا. فنحن لسنا أمام إحباط لعملية انتقال قدرة إلى الحزب من النوع الذي لا يمتلكه، كما أننا لسنا أمام عملية شطب (إبادة) لقدرة نوعية تمتلكها دمشق، ذلك أن المرجح جداً أن ما تم تدميره هو نسخة واحدة من جملة نسخ حصلت عليها سوريا من المنظومة التسليحية إياها. ومن البديهي أن تدمير « قطعة» عسكرية تعلم تل أبيب أن سوريا تمتلك العديد من أمثالها ليس مبرراً مجدياً لعملية تنطوي على هذا القدر من المغامرة.
في البحث عن المتغيرات التي تفسر الفعل الإسرائيلي، لا يعثر المرء إلا على عامل واحد، هو الحرب الداخلية المشتعلة في سوريا التي تستنزف الدولة وكيانها نظاما وجيشا وشعبا. فإذا افترضنا أن إسرائيل كانت مطّلعة على عمليات نقل الأسلحة الإستراتيجية إلى حزب الله من قبل (بناء على ما قاله غولان)، فإن هذا الافتراض يستتبع افتراضاً آخر مفاده أنها لم تكن تتجرأ على اعتراض هذه العمليات في حينه، لسبب وجيه هو أنها كانت تخشى رد الفعل السوري في وقت كانت دمشق لا تزال تتمتع باستقرارها السياسي والأمني، وقادرة بالتالي على لعب دورها الإستراتيجي ضمن محور المقاومة ببراعة وقوة.
نحن، إذاً، أمام تحيّن إسرائيلي للحظة «قاسية» في الطرف المقابل، ظاهرها استغلال الضعف السوري لإعادة إنتاج رسائل التهديد السابقة بهدف تكريس مفهوم الخط الأحمر، برغم فوات الأوان من الناحية الفعلية. وتوسلت إسرائيل عنوان حزب الله للدخول على خط المواجهة الجارية في سوريا ضد نظام الأسد، كونه العنوان الوحيد الذي يؤمّن لها المشروعية السياسية الدولية لاعتدائها، فضلاً عن أنه يعفي المعارضة السورية من حرج الاعتراض عليه. ولا يمكن فهم الدخول الإسرائيلي الميدان السوري مباشرة إلا في ضوء: أولاً، تحطم كل الرهانات الإسرائيلية (وغير الإسرائيلية) السابقة التي ضربت الموعد تلو الآخر لانهيار نظام الأسد فلم تحصد إلا الخيبة. ثانيا، اتجاه الوضع الميداني خلال الأسابيع الأخيرة نحو مزيد من الترجّح لمصلحة النظام. ثالثا، الانكفاء الدولي عن فكرة التدخل العسكري في سوريا.
أما في الجوهر، فيفترض بالهجوم الإسرائيلي، في حسابات تل أبيب غير المعلنة، أن يسجل مجموعة نقاط مشتركة. أولى هذه النقاط «القضاء على ما في الذمة» لعمليات اعتراض نقل الأسلحة التي حالت معادلات الردع القائمة في الماضي دون تنفيذها. ثانيتها السعي إلى تثبيت معادلات جديدة تتصل بالحدود التي من المسموح للنظام السوري أن يتعامل ضمنها مع ما لديه من أسلحة استراتيجية. ثالثتها فتح الباب أمام القول إن التهويل القائم حول فكرة التدخل الخارجي ليس واقعياً، بدليل حصول نموذج مصغّر له من دون أكلاف. رابعتها مد المعارضة الميدانية المسلحة برافعة ضغط مستجدة على النظام السوري من خلال إشغاله بجبهة جديدة تشتت جهده، وتحول دون استجماع قواه وتركيزها في المواجهة القائمة، وكذلك إحراجه معنويا وأخلاقيا عبر إظهاره بمظهر «المستبسل ضد شعبه، والمنكفئ أمام إسرائيل».
وهذا الإحراج يشمل كل محور المقاومة الذي يبدو أنه أخطأ في تقديره، عندما بنى حساباته في سوريا على أساس أن تل أبيب لن تدخل علناً الحرب الدائرة في بلاد الشام، علماً بأن بصمات الاستخبارات الإسرائيلية تبدو واضحة المعالم في بعض العمليات الأمنية التي شهدتها سوريا خلال الأشهر الماضية، خصوصاً تلك التي استهدفت خبراء لا صلة لهم بالحرب الداخلية. وبين هؤلاء من عملوا خلال العقد الأخير على بناء الترسانة العسكرية المنتشرة بين أيدي المقاومين، في غزة ولبنان وسوريا.