(بما أنّ القانون اللبناني يمنع التعرّض لـ«المقامات» الدينيّة الرفيعة، فقد استعضت عن رسالة هجاء للمفتي برسالة تقدير). المفتي قبّاني رجل دين يحتلّ موقعاً رفيعاً جداً. والمفتي في الجمهوريّة اللبنانيّة الممتازة كان يمثّل كل جمهور المسلمين في لبنان، لكن الفتنة المذهبيّة غيّرت ميزان الأمور. أصبح لكل حيّ ولكلّ طائفة منصورة مفتيها الخاص. لكن المُفتي رجل ذو موهبة وعلم. وإلّا فكيف انتشله رفيق الحريري من عالم المجهول لينصّبه مفتياً على الديار الفينيقيّة؟ وهل يمكن رفيق الحريري مُكتشف المواهب (هل هناك من قدّر باسم السبع أكثر منه؟ وهل هناك من سمع بباسم السبع قبل أن يقرّبه رفيق الحريري منه؟) أن يعيّن من كان خالياً من المواهب والمعرفة؟ طبعاً، هناك الحسّاد والعواذل (لم نعد نسمع عن العواذل في الأغاني العربية، وخصوصاً أنّه كانت هناك دعوة لهم في أغانٍ قديمة بأن «يُفلفلوا») الذين يعيّرون المُفتي بضحالة علمه ومعرفته. وهناك من يعيّر المُفتي لأنه لا يقرأ نصّاً عربياً قصيراً دون ارتكاب عدد وافر من الأخطاء النحوية. ولكن، إذا كان يحقّ للشاعر ما لا يحق لغيره، فلماذا لا يحق للمفتي ما لا يحق للشاعر؟ كيف وقع اختيار الحريري على المُفتي هذا؟ هل أقام المعايير العلميّة والفقهيّة من أجل حسن تمثيل الطائفة في الشؤون الدينيّة، أم أنّ الحريري اختار كعادته (على طريقة ياسر عرفات) وفق معيار واحد: الطاعة العمياء والولاء المُطلق والموافقة الذليلة؟ هناك احتمال أنّ المُفتي قبّاني جذب أنظار الحريري إليه لما ترك من إرث فقهي علمي في تفسير الدين وتجديده. ولكن، هل كان ولاء المُفتي للحريري (الأب) جزءاً من ولاء المؤسّسة الدينيّة في بيروت للرياض؟ صحيح أنّ الوهّابية فشلت في دفع المسلمين السنّة إلى أحضانها وفي تقويض المذاهب الأربعة، فعمدت إلى وسيلة أخرى سهلة: شراء طاعة رجال الدين السنّة بالمال الشهري، إضافة إلى شراء قادة المؤسّسات الدينيّة (مثل «الأزهر» الذي كان حصناً منيعاً في وجه التعصّب والتزمّت الوهابي أيام جمال عبد الناصر، الذي له إنجازات قليلاً ما تُذكر في مجال تجديد الفكر الديني وتقديم نموذج تقدّمي للتفسير. وقد يكون هذا الإنجاز مصدر إعجاب لأبواق الليبرالية العربية، لكن إقامتهم في مضارب أمراء آل سعود تسخّر خدماتهم في هجاء الناصرية حتى بعد عقود من وفاة عبد الناصر، والذي يحظى اليوم بتأييد متعاظم في مصر بفضل تقدير الشباب العربي المُتنوّر لعدائه المُبكِّر للإخوان مع أنه كان رحيماً معهم).
والمفتي قبّاني مرن مرونة الساسة في لبنان. وهو، للأمانة، أطاع رفيق الحريري دون سؤال ودون إشكال، وقد قدّر قبّاني وقوف الحريري سدّاً منيعاً أمام محاولة إلياس الهراوي تشريع الزواج المدني الاختياري (جاء في مقدّمة نشرة أخبار «إل. بي.سي» قبل أيّام ما يلي عن موقف المُفتي قبّاني: «موقف يذكّر بما حدث في التسعينيات». بما حدث في التسعينيات؟ لماذا التستّر على اسم رفيق الحريري في الرواية، فيما ذُكر إيلي الفرزلي بالاسم؟). وموقف المُفتي قبّاني ورفيق الحريري (وورثته بمَن فيهم المُتنوّر أحمد فتفت، والذي يمثّل تيّار «المستقبل» الذي ــ مثله مثل الإخوان المسلمين وجبهة النصرة ــ لا يريد للبنان إلا الدولة «المدنيّة» المُتنوّرة) لا يحيد عن توجّه هيئة كبار العلماء في مملكة القهر السعوديّة، وذلك لأنّ رجال الدين (متى يصبح عندنا «نساء الدين»؟) في الدول العربيّة يقومون بجهد كبير للترويج لسياسات الطاغية ولتسويغها شرعياً.
لكن معارضة المؤسّسة الدينية للزواج المدني مفهومة. فرجل الدين يقبض مرتّباً من الدولة (المفترض حسب الدستور ألا تكون دينية) كما أنه يرتزق من الارتباط بدولة «إقليمية»، وذلك لتحسين شروط العيش. وهناك الزعيم صاحب المليارات الذي يجود على رجال الدين مقابل الطاعة والولاء والتصفيق في المناسبات الوطنية والطائفية. لكن كلّ هذه المصادر للدخل لا تكفي. فهناك طموحات الـ«بزنس»، والمُفتي قبّاني يستحق الاحترام والتبجيل لأنّه ــ وإن لم يترك إرثاً في إنتاج العلوم الفقهية ــ أجاد في صنع الـ«بزنس» وله كتاب تحت الإعداد عن «الشروط الفُضلى لـ«البزنس» في الدين» وآخر عن «التجارة بالعمامة». والزواج الديني يعود بدخل إضافي لا غنى عنه لرجال الدين الشيعة والسنّة في لبنان، ومن الظلم حرمانهم هذا الدخل الإضافي. لكن هناك إمكاناً للوصول إلى حلّ وسط بين دعاة الزواج الديني والزواج المدني بما لا يعرّض مصادر دخل رجال الدين لخطر شديد. ماذا لو أنّ رجال الدين قاموا مستقبلاً بدور ما في الزواج المدني حتى لا ينقطع مصدر رزقهم الحلال من مراسم إتمام مراسم الزواج دينياً؟ ماذا لو أن رجال الدين تكفّلوا مثلاً زفّ العروس، وخصوصاً أنّ الشرع لا يحرّم عادة النقوط المُربحة. (وهل استطاعت نجوى فؤاد إنشاء العمارات في مصر إلا بفضل النقوط؟).
طبعاً، لم يكن إلياس الهراوي جدياً في طرح موضوع الزواج المدني، لكن معارضة رفيق الحريري الشرسة كانت جدية. أما ميشال سليمان (الذي يعاني اشتياقاً إلى الوطن بسبب سفراته التي لا تنتهي، والتي لا ينفكّ الترويج فيها لفكرته المُبتكرة في إقامة مركز لحوار الثقافات في عين الرمّانة أو باب التبّانة وذلك من أجل تكريس لبنان (النهائي، طبعاً لأن الخلود له ولطبق الكبّة النيّئة) بلد الإشعاع (غير النووي) والنور (المتقطّع بانتظار وصول بواخر جبران باسيل) فقد عبّر عن إعجابه بالزواج المدني في تغريدة. إنّ المشاريع الجديّة تُطرح في تغريدات، خصوصاً عندما يكون كاتبها موظّفاً في القصر الجمهوري. وميشال سليمان، مثله مثل إلياس الهراوي، يستسهل طرح مواضيع أو أفكار لا تثير حساسية رجال الدين في طائفته هو.
والطريف أنّ المُفتي قبّاني بات يقضّ مضاجع الحريريّين. الرجل الذي كان ثابتاً في الولاء للحريريّة والذي أقام مصلى في القصر الحكومي لدعم فؤاد السنيورة، رمز الطائفة المنصورة، بات حماسياً في استفزاز آل الحريري وفي طلب التوبة من سعد. وعندما تسرّبت وثائق من دار الفتوى تدين المفتي في أعمال تجارية تعود له ولابنه (البارع في علوم الـ«بزنس»)، قامت قيامة تيار «المستقبل»، وانبرى الحريريّون للدفاع عن المفتي، وصوّروه كأنه بات رمز الطائفة وأن الحملة ضدّه تستهدف الطائفة ككلّ. حاول سليم الحصّ أن يفرض محاسبة الفاسدين في دار الفتوى لكن «المستقبل» منع ذلك، واعتبر أنّ الأمر غير مقبول بتاتاً. لكن المُفتي لان بعد تعيين نجيب ميقاتي، تغيّر ودار وتقلّب، وفي دار الإفتاء استوى. نسيَ سعد الحريري أن خلفه في رئاسة الحكومة بات أكثر ثراء منه (بفضل عدم النأي بالنفس عن النظام السوري وعن آل مخلوف لسنوات طويلة) وأنّ رجال الدين في العالم العربي هم برسم الإيجار، وليس البيع. تغيّر ولاء المُفتي وفجأة أثار إعلام الحريري مسألة فساد دار الفتوى، ولكن هذه المرّة انبرى ميقاتي للدفاع عن المفتي كرمز للسنة. وتحوّل المُفتي إلى شوكة في حلق الحريريّة. وفؤاد السنيورة الذي كان المُدافع الأبرز عن فساد دار الفتوى تحوّل بين ليلة وضحاها إلى العدوّ الأبرز للفساد في دار الفتوى. أما سبب الخطاب الناري للمفتي ضد الزواج المدني فيعود لحسابات زمنيّة في داخل دار الفتوى، وإكمالاً للصراع بين الحريريّة والمُفتي. صحيح أنّ سليمان (الباحث عن موقف على أن لا يحيد عن صراط دول النفط والغاز) هو الذي أثار المسألة إعلامياً، لكن المُفتي أراد أن يُحرج الحريري قبل ظهوره الإعلامي السنوي (صحيح أنّ الحريري بعيد عن لبنان لفترة طويلة لكن عقاب صقر ــ ذا الصدقية الثابتة ــ أكّد أكثر من مرّة أن سعد يحمل لبنان في قلبه وأنّه يتابع أخبار لبنان «أوّل بأوّل»، على حدّ قول الأخوة والأخوات في مصر).
والطريف أنّ بعض الإعلاميّين في أجهزة الدعاية الحريرية يتصنّعون المدنية والتنوير كأنّ خالد ضاهر وسلفيّي طرابلس ليسوا في خندقهم. حلفاء جبهة النصرة في سوريا يريدون الزواج المدني في لبنان. أوّاه. وإعلاميو الحريري، أو بعضهم، يجاهرون بتأييدهم للزواج المدني مُتناسين أن شهيدهم ومعلّمهم ومُلهمهم، (والمغسول لأنّه لم يرتدّ عن الدين بمعيار المُفتي القبّاني) رفيق الحريري، كان هو العدوّ الأبرز للزواج المدني عندما طُرح للمرّة الأولى في مجلس الوزراء. لكن إعلاميّي الحريري ظرفاء، على وزن ليبراليّي أمراء آل سعود، فهم يريدون إيهامنا بأنهم منخرطون في حركة سياسية تنويرية لا تدين بولائها لدولة خارجية باستثناء أسوج والنرويج والدنمارك.
لكن كلام المفتي كان قاسياً، إذ إنّه أعلن أن من يوافق على قانون الزواج المدني سيكون مرتدّاً عن الدين. والحكم على المُرتد شرعاً هو الإعدام. أي أنّ المفتي قبّاني أهدر دم قطاع كبير من المسلمين والمسلمات في لبنان. وكأنّ الإعدام ليس كافياً، فقد زاد عليه المُفتي فتوى تحرّم غسل الميّت إذا كان قد وافق في حياته على الزواج المدني. لكن الفتوى هذه تحتاج إلى توضيح: فهمنا أن غسل الميت المُرتدّ حرام، لكن ماذا عن نقعه أو تنشيفه أو تطهيره عبر «المايكروويف»؟ وهل ينسحب المنع على غسل شعر الميت بـ«الشامبوا» مثلاً؟ وهل يجوز غسل الميّت المُرتد على يد مُرتدّ آخر؟
يا مرتدّي العالم الإسلامي ومرتدّاته اتحدّوا. ليس لكم ما تخسرونه إلا حضور «المأذون» في أعراسكم وأعراسكن.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)