نواكشوط | لم تكن «تين بكتو» لتدخل في حسابات الاعلام العربي لولا الاخبار التي تم تناقلها مؤخراً عن الارتكابات «العنصرية» بحق السكان العرب والطوارق بعد دخول الجيشين الفرنسي والمالي إلى المدينة. فالمدينة لها جذور عربية إسلامية تعود إلى فترة انتهاء حكم الأندلس، حيث نزحت إليها عائلات كثيرة كانت تعيش في ظل الحكم الإسلامي هناك.
لتأسيس المدينة في أوائل العام 1080 قصة تُجمع عليها الكثير من المصادر. فالطوارق الذين كانوا يعيشون أثناء موسم الأمطار في ربوع صحرائهم، كانوا يعودون في فترات الجفاف إلى المناطق الخصبة حول نهر النيجر الشهير، وهو ما دفعهم إلى اختيار موقع تين بكتو قرب النهر، كمكان مناسب لتخزين احتياطي الغذاء. والموقع كانت تسكنه امرأة عجوز من الطوارق من قبيلة «ايمقّشرن» اسمها بتكو، وعليها سمي المكان «تين» بمعنى (صيغة ملكية يخص كذا) «بتكو». وانتزعت تين بكتو وبكل جدارة مكانة مدن كبيرة في ذلك العصر مثل مدينة ولاتة الموريتانية ومدينة برنو الغانية وغيرها من المدن التاريخية والتجارية في الغرب الافريقي.
ويرى المؤرخون ان تين بكتو لم تكن تقل اهمية عن الآستانة أو القاهرة، او فاس وغيرها من المدن. ويعتقد البعض أن ذلك النشاط تضاعف كثيرا بعد سقوط آخر معاقل الأندلس وهو مملكة غرناطة. ويعتبر المؤرخون أن واحة تين بكتو هي حاضنة الإسلام في الصحراء الكبرى ومنارة للعلم فيها ومجمع العلماء، وهي من أشهر المدن في غرب أفريقيا خاصة منذ القرن الثالث عشر.
المدينة التاريخية، التي تسكنها قبيلة الأنصار وبعض القبائل ذات الأصول العربية والطوارق وقبيلة السنغاي والبرابيش، هي اليوم «مجروحة» بسبب استهداف اهم معالمها التاريخية «مكتبة احمد بابا التنبكتي». وتعيش حرباً من نوع آخر تستهدف سكانها من العرب والطوارق وكذلك الثقافة العربية والاسلامية.
روايات سكان المدينة من العرب والطوارق تنقل الكثير من الاحداث التي يرون فيها «عنصرية» الجيش المالي والماليين تجاههم، فهؤلاء الذين تحملوا طيلة عام ممارسات المسلحين الاسلاميين، يجدون انفسهم اليوم ضحية لحرب لم يختاروها بإرادتهم.
آخر فصول الحرب «العنصرية» ما نقلته الحركة العربية الازوادية لـ«الأخبار» أمس عن مقتل ستة عرب من السكان بدم بارد في «تين بكتو» فور انتهاء زيارة الرئيس فرانسوا هولاند للمدينة. وأوضح مسؤول العلاقات الدولية في الحركة محمد مولود، أن عناصر من ميليشيات «الغانداكوي» الزنجية المالية هاجمت قرية «لكراكر» العربية التي تبعد حوالي ثلاثين كلم شمالي تين بكتو واعتقلت ستة أشخاص وقامت بتسليمهم للجيش المالي في المدينة الذي تولى إعدامهم بدم بارد. وقال مولد إن ما حدث «انتقام وتصفية عرقية للعرب لبياض بشرتهم»، موضحاً أن من بين من قتلوا محمد الامين ولد حمودي، مدير مدرسة نور المبين العربية في المدينة ومحمد ولد التيجاني، تاجر وولد اتويركي.
القيادي في الحركة المطالبة باستقلال اللازواديين ندد بما سماه الصمت الدولي إزاء التصفيات العرقية ضد العرب. واعتبر أن زيارة هولاند للمدينة منحت الغطاء للمجرمين ولمرتكبي المجازر ضد العرب في شمال مالي.
بالاضافة إلى حادثة تصفية المواطنين العرب، سجلت الايام الماضية العديد من الاحداث التي تورط فيها الجيش المالي وترقى إلى درجة جرائم الحرب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. وبناء على شهادات موثقة، سجلت حالات إعدام جماعية، ميدانية لأشخاص ذنبهم الوحيد هو لون بشرتهم وانتماؤهم للعرب، أو الطوارق، كما أحرقت بيوتهم، كذلك نهبت محلات مجموعات العرب والطوارق تحت سمع وبصر الجيش المالي دون أن يحرك ساكناً.
ويرسم اللاجئون الماليون، الذين تمكنوا من اللجوء إلى البلدان المجاورة، صوراً من المعاناة التي قاسوها ترقى إلى درجة التطهير العرقي. ولم يسلم بعض مواطني الدول المجاورة لمالي من هذه الانتهاكات بسبب لون بشرتهم فنهبت متاجرهم، ومؤسساتهم، وتعرضت حياتهم للخطر.
الجيش المالي، كما الماليون من غير العرب والطورق، استعملوا «شماعةً» لارتكاباتهم تقوم على تبريرات واهية بأن العرب والطوارق كلهم ينتمون إلى الجماعات المسلحة المتطرفة. فحجة الجيش ليست صحيحة، اذ إن الجماعات المسلحة ليست مكونة من عرب وطوارق فقط، وإنما تضم في صفوفها زنوجاً ماليين، ومن جنسيات أفريقية أخرى.
هذه التصرفات سيكون لها وقع خطر على وحدة البلاد، فاستغلال الأحداث المأساوية في الشمال لتصفي الدولة المالية حسابات قديمة مع بعض مكونات شعبها، الذين طالما اتهموها بالتمييز ضدهم لن يسهم في استعادة مالي لوحدة أراضيها، التي عجز جيشها عن المحافظة عليها، ولا في قيام سلم اجتماعي لم تستطع الحكومات المالية المتعاقبة المحافظة عليه بشكل دائم. ومن ثم فإن الانتقام من العرب والطوارق فعل عنصري يظهر عدم أهلية الجيش المالي للانتشار في مناطق العرب والطوارق في الشمال ما دام يعتبرهم كلهم أعداء. من هنا جاءت بعض الدعوات الملحة لإرسال قوة حفظ سلام دولية تنتشر في شمال مالي لتحمي سكانه من المجموعات المتطرفة، ومن الجيش المالي الذي فقد صفته الجمهورية، وأصبح طرفاً في نزاع يأخذ طابعاً عرقياً أكثر فأكثر خصوصاً وأن القبائل العربية تعتبر من اهم المكونات الاساسية للشمال المالي.
ويرى المراقبون أن الوضع اذا استمر على هذه الحال فإنه سيغير في خريطة الشمال وسيحدد التطورات القادمة في الاقليم. ويؤكد المراقبون أن العرب والطوارق سيجددون سعيهم لإيجاد حل عادل لمطالبهم التاريخية، في التنمية، والمشاركة السياسية التي حرموا منها منذ استقلال الدولة المالية وبقي مطلباً مرفوضاً من حكام باماكو طيلة الستين عاماً الماضية. ويعتقد المراقبون أن العرب والطوارق سيطالبون اليوم بإدارة شؤونهم، ورعاية مصالحهم بأنفسهم، في ظل حديث متزايد عن وجود ثروات طبيعية هائلة في المنطقة، قد لا تكون بعيدة عن الصراع الدولي حولها.



انتقام فرنسي

لم يكن اهتمام الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بزيارة «تين بكتو» في زيارته إلى مالي لأخذ الصور فقط والاعلان عن «نصر» قواته على المسلحين الاسلاميين. فالمدينة يعرفها الفرنسيون جيداً. فالمستكشف الفرنسي روني كاياي وهو أول فرنسي دخل تمبتكو وكتب عنها ووصفها وصفاً دقيقاً في كتاباته قبل مائتي عام، وتحديد في العام 1828.
كما شكلت «تين بكتو» المنطلق لعمليات المقاومة في وجه «المستعمر الفرنسي» في القرن التاسع عشر التي قادها المجاهد الشهير محمد علي، الملقب بـ انقونا، والذي قامت القوات الفرنسية باغتياله عام 1897 عند اجتياحها للمنطقة.
كذلك شكلت المدينة للفرنسيين «عقدةً» تاريخية في مقاوتها للغزو الثقافي الفرنسي طيلة السنوات الماضية.
وامعاناً في اخفاء التاريخ وتزويره، استبدل الفرنسيون تين بكتو بـ«باماكو» القرية الصغيرة في جنوب غرب مالي لتكون عاصمة للبلاد بدلاً منها في عام 1908. لهذا يرى كثير من أبناء «تين بكتو» أن ما تشهده مدينتهم، ما هو إلا انتقام فرنسي من تلك المرحلة.