نشنّ، بلا تهيّب ولا التباس، حملة قطيعة سياسية وفكرية منهجية مع الإسلام السياسي. ونحن نرفضه مرتين، مرة لأنه يمثّل أداة تجديد الأنظمة الكولونيالية الكمبرادورية العربية، والسعي إلى تأبيد التخلّف واللامساواة والاستبداد، ومرة لأنه يصادر الله، ويستخدمه لبسط نوع محلي بشع من الفاشية. ولكن ماذا بشأن حزب يدعي بأنه «حزب الله»، ونواصل، مع ذلك، دفاعنا المثابر عنه؟
شكلياً، هناك تناقض في خطابنا؛ فما الذي يجعل حزب الله مختلفاً، من حيث الجوهر، عن الإخوان المسلمين والسلفيين بمختلف أصنافهم؟
لا يخفى، بالطبع، أن هناك اختلافاً يتعلّق، رئيسياً، بالمقاومة. الجوهري في حزب الله أنه حركة تحرير وطني. ولا نناقش، هنا، السلاحَ والحرب، بل السياسة والموقف. أعني أن حزب الله هو عضو أصيل في محور إقليمي ودولي، مضاد للإمبريالية والصهيونية، انطلاقا من عقيدته السياسية المتمثلة في العداء لإسرائيل، بوصفها «شرا مطلقاً»؛ يقوده ذلك، شاء أم أبى، إلى علمانية واقعية تنفي أثره كحزب ديني. كيف؟ استراتيجية المواجهة المستمرة مع العدو الإسرائيلي، تتطلب، واقعياً، إقامة وتعزيز مروحة واسعة جدا من التحالفات مع السائرين، كلياً أو جزئياً، في الخط السياسي نفسه، سواء أكانوا سنّةً أو علويين أو اسماعيليين أو دروزا أو مسيحيين أو شيوعيين أو يساريين أو قوميين الخ، ومع الدول، سواء أكانت مسلمة أم لا، اسلامية أم علمانية. هذه الحاجة الموضوعية ــــ التي تفرضها أولوية الصراع مع إسرائيل ـــــ إلى التحالفات، تفرض على حزب الله، في تناقض موضوعي مع ادعاء الاسم، القبول الضمني ــــ أقله في الممارسة ــــ بمشاعيّة الله الذي لا يقبل، بطبيعته المطلقة، أن ينحاز إلى حزب أياً كان. هنا، يغدو الله، إذاً، محفّزاً داخلياً على احتمال أعباء المقاومة، لا أداة للحزب والمقاومة في مواجهة الآخرين. يمكننا القول، بالنتيجة، إن حزب الله، ربما على الضد من فكرته الأولى، هو الحزب الذي يستعين بالله لكي يقاوم. وهذا حق له، بينما ليس من حقه، أو حق سواه، أن يدّعي المقاومة باسم الله، ومن أجل فرض تصوّر واحد للعلاقة مع الله.
ولإنارة هذا التعقيد، نستحضر مثالاً مضاداً هو تنظيم حماس الإخواني؛ فالعقيدة الجوهرية لدى حماس، كما بينت التطورات، ليست العداء لإسرائيل بوصفها الشر المطلق، وإنما التمكين للسلطة الإخوانية القائمة على احتكار الله وكبس المجتمعات في قالبها. والشاهد أنه حالما ظهرت تباشير التمكين، حتى انقلبت حماس على مركز خط المقاومة، دمشق، موجهةً الطعنات إلى ظهر الحليف السوري، ومندرجة في حلف إخواني إقليمي يضم قَطر الإسرائيلية وتركيا العثمانية والنظام المصري الإخواني الذي قام على منح الشرعية الإسلامية لمعاهدة كامب ديفيد مع تل أبيب. وفي السياسة، ينتهي هذا المسار، حتماً، إلى اسباغ الشرعية الإسلامية على اتفاقيات أوسلو، والذهاب إلى استكمالها في صفقة جديدة.
مات حافظ الأسد.. ولم يوقّع. هذه هي ميزته الخالدة. الرئيس السوري الكبير، الحليف الأول لحزب الله، كان علمانياً صريحاً، وسوريا المقاومة، التي أبى حزب الله أن يغادر موقعها، ليست اسلامية، بل هي جمهورية علمانية، يؤكد رئيسها، بوضوح، أنه يخوض معركة الدفاع عن العلمانية والقومية العربية ضد الإسلام السياسي.
في درس الفلسفة، نتعلم أنه لا علاقة عليّة بين الدين والأخلاق، بل نتعلم أن الانحياز الديني مضاد للأخلاقية. فالانحياز ذاك حصريٌ والأخلاقية مطلقة، ما يفسّر انفلات المتدينين المتعصبين من كل القيود الأخلاقية إزاء «الأغيار»، كذباً وغدراً واستباحة وذبحاً واغتصاباً الخ مما وجدناه، ونجدْه، في ممارسات الإخوان والسلفية والكتائب والقوات الخ. فمن أين أتى حزب الله بهذه الدرجة الملحوظة من التشدد المناقبي في التعامل مع الحلفاء والخصوم، كما أثبت، مراراً وتكراراً، في سلوكه الميداني في المقاومة والتحرير والأزمات الداخلية، وأخيراً، لا آخراً، في وفائه الاستراتيجي، لدمشق العروبة. إجابتي واضحة: من علمانيته الواقعية؛ فالعلمانية هي شرط لازم ـــ ولكنه غير كاف بالطبع ـــ للأخلاقية.
لمَ كان ـــ أو للدقة: صار ـــ حزبُ الله، كذلك؟ ألأنه شيعي يتمثّل عليّاً المبدئيّ المناقبيّ، والحسينَ الفدائي، وتقليدَ التشيّع المعارض والثوري؟ هذا مجرد خيط داخلي لا ننكره من خيوط النسيج، لكننا عرفنا أحزاباً شيعية لا تختلف، جوهرياً، عن الإخونجية والسلفية، سواء أفي براغماتيتها السياسية أم في همجيتها مع «الأغيار».
حزب الله كذلك، لأنه لبناني مقيّدٌ، بسبب تركيبة لبنان المعروفة، باستحالة احتكار السلطة، ولأنه يمثّل جماعةً لبنانية سحقت تاريخياً، وكان شرط تحررها الذاتي ونهوضها الاجتماعي، وما يزال، هو الصدام مع إسرائيل.