دمشق | المحاولة الأولى في تحطيم تمثال أبي العلاء المعري (973 ـ 1057) فشلت. تمثال الفيلسوف الضرير ظل هدفاً لإحدى الجماعات التكفيرية المسلحة في مدينة معرة النعمان في ادلب، لقناعة هذه الجماعة بأنّ أي تمثال في البلاد يخص الرئيس وأجداده فقط. انكفأ هؤلاء عن تنفيذ المهمة نحو تسعة أشهر بسبب تدخّل بعض العقلاء في المدينة، لكنهم عادوا قبل أيام وقطعوا رأس المعري (الأخبار 12/2/2013 - 13/2/2013)، وعبثوا بقاعدة النصب ثم انسحبوا.
الفتوى الجديدة التي أباحت تحطيم التمثال الذي أنجزه النحّات فتحي محمد (1944) تقول بأنّ صاحب «رسالة الغفران» ملحد وزنديق ومهرطق. لن يتوقف تأثير هذه الفتوى هنا. وفقاً لتفكير هذه الجماعة الجهادية، ينبغي تحطيم كل النصب الموجودة في الساحات العامة باعتبارها أصناماً جاهلية. حالما هدأ غبار معركة المعري، استيقظ أهالي دير الزور صباح الخميس الماضي على اختفاء تمثال شاعرهم محمد الفراتي (1880 ـــ 1979). التمثال الذي يزيّن واجهة مديرية الثقافة في مدينة الفرات، كان قد تعرّض للتلف في جزء منه خلال تسعينيات القرن المنصرم، إذ قام رجل مخمور بكسر يد التمثال لظنّه بأن الفراتي يشير إليه بحركة نابية، وجرى ترميمه حينذاك.
في الأسبوع نفسه، تناقلت وكالات الأنباء خبر اختفاء تمثال طه حسين في مدينة المنيا المصرية. حرب التماثيل إذاً، هي محصلة لثقافة ترى في أي نصب «بدعة» تجافي الدين، لكنّها في العمق تستهدف الفكر التنويري، فقطع رأس أبي العلاء المعري، لن يلغي تراثه الفلسفي والشعري من خزانة الإبداع العربي، والحال نفسه بالنسبة إلى «عميد الأدب العربي» أو للشاعر الفراتي، أحد أوائل مترجمي «رباعيات عمر الخيام» عن الفارسية.
ربما علينا أن نستحضر هنا محاولة اغتيال نجيب محفوظ وطعنه في العنق (!)، ذلك أنّ الفتوى التكفيرية هي التي قادت شاباً جاهلاً إلى ارتكاب الجريمة، وليس قراءته لأعمال صاحب الثلاثية. لكل واحد من هؤلاء سجاله الجريء والمفارق في ما يتعلق بتفسير الدين، كأنّ ما يحصل في ظل هيمنة المتشددين على مواقع القرار، هو تصفية حساب جمعي بأثر رجعي لكل الرؤوس المشتعلة واقتلاع أفكارها إلى الأبد، وإعادة تموضع لحراثة أرض جديدة تخلو من أي «بذرة شيطانية» تُعمل العقل، أو تحيي السجال الفكري الخلّاق في محاكمة قمعية من طرف واحد، تعيد الاعتبار إلى مشهد حرق كتب ابن رشد، أو صلب الحلاج، أو قتل السهروردي، وإطفاء شعلة كل ما هو مضيء في تاريخ التراث العربي واختزاله إلى عناوين ظلامية وغيبية.
لا يمكن عزل ما حدث لهذه التماثيل عن حوادث نهب المتاحف أو تدميرها. قبل قطع رأس المعري، تعرّض متحف معرة النعمان للنهب والدمار في مشهد مشابه لما جرى للمتحف المصري، وقبلهما متحف بغداد عشية الاحتلال الأميركي للعراق، بالإضافة إلى تدمير عشرات المواقع الأثرية والأسواق القديمة والقلاع، وكل ما له صلة بالتراث الإنساني بقصد طمسه وتشويهه واندثاره. ثقافة جزّ العنق في جوهرها، هي الوجه الثاني لثقافة السحل التي ابتكرها انقلابيو حقبة الستينيات في تصفية أعدائهم، ولن نجد ما بينهما ما يشبه محاكمة طه حسين إثر معركة «في الشعر الجاهلي» التي انتهت ببراءة الأخير، ولن يجد أعمى البصر مكاناً له، بين عميان البصيرة، في هذه الحرب المفتوحة ضد العقل، ولن يردّد محمد مهدي الجواهري، مرّة أخرى، قصيدته «قف بالمعرّة وامسح خدها التّربا» القصيدة التي ألقاها عام 1944 في مناسبة ألفيّة أبي العلاء.
كان طه حسين (1889 ــ 1973) واحداً من ضيوف تلك المناسبة، ولعله أحسّ بأنّ الجواهري يخاطبه شخصياً، نظراً إلى تشابه سيرتهما الحياتية والفكرية بخصوص الشك والتشاؤم والجدل. ألم يختر طه حسين المعري موضوعاً لأطروحته الأولى في الدكتوراه؟ لكن حماسة صاحب «الأيام» لم تتوقف عند حدود الاحتفاء بفكر «فيلسوف الشعراء»، بل تبرّع بمبلغ خمسة آلاف جنيه لإتمام بناء ضريح المعري في مسقط رأسه وإعادة نشر مؤلفاته. ليست المصادفة إذاً، هي من جمعت اليوم، المعلم وتلميذه في محنتهما، بل الردّة الثقافية التي بدأت ترخي ظلالها على الساحة العربية في هذا الربيع الغائم، في محاولة مبكرة لإقصاء أي نبرة علمانية، أو تنويرية، تحفر في الأرض المحروقة، وإقامة الحدّ على التفكير في المهد. قل إنه جحيم دانتي في النسخة الثانية من «رسالة الغفران».