ثلاث سمات جديدة طرأت على جوهر المشهد السوري خلال الأسابيع الأخيرة: الأولى، هي تقاطر وفود حزبية عربية ذات مشارب قومية ويسارية إلى دمشق. السمة الثانية، هي تعاظم عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، وهؤلاء أيضاً بعد عامين من النزوح اكتشفوا أن إيواءهم في دول الجوار يجري على أساس انتهازي سياسي. فدول «أصدقاء الشعب السوري» تريد من كل نازح أن يكون معارضاً للنظام، وإلا فإنّ مساعداتها تكفّ عن الوصول إليه. السمة الثالثة تمثلت في أنّ عامل اليأس من إسقاط سوريا ونظامها أخذ يتسرب بقوة إلى نفوس المسلحين ومشغليهم في الخارج والدول الداعمة لهم، وأن المجموعات المسلحة داخل سوريا باتت في هذه المرحلة تعيش ما يشبه «لعبة بقائها»، حسبما قال الأسد لوفد حزبي قومي عربي زاره الأسبوع الماضي.
ونقل أحد أعضاء هذه الوفود عن الأسد قوله إنّه بات متأكداً من أنّ المؤامرة في سوريا قاربت على نهايتها. وسنده في إثبات ذلك تطورات عديدة مهمة تشهدها حالياً الأزمة السورية، أبرزها الوقائع الميدانية التي لفت إلى أنّه «مرتاح جداً إليها، حيث هناك إنجازات ميدانية يدرك أهميتها الاستراتيجية تماماً المخططون الإقليميون والدوليون العاملون للعبث بأمن سوريا»، لافتاً في هذا المجال إلى أنّ «كل المحاولات التي جرت لدخول المسلحين إلى دمشق باءت بالفشل».
ومن المؤشرات الأخرى التي عرض لها الأسد، «التخبط في مواقف معارضة الخارج المتناقضة والمتضاربة، ما يؤكد فشل مشروعهم»، وأيضاً «ارتفاع منسوب تهديد القوى التكفيرية داخل الأزمة السورية في أوساط دولية». ويخلص الأسد إلى القول «لقد انتصرت سوريا في هذه المعركة، وأسقطت مشروع التآمر ضدها».
ويشرح مصدر سوري رفيع المستوى ما يسميه المعاني الكبرى التي أفرزها الميدان الداخلي والخارجي في الأزمة السورية طوال العامين الماضيين، والتي تقود الرئيس الأسد إلى الكلام عن سقوط المؤامرة. وأبرز هذه المعاني يتمثل «في عدم امكانية استمرار المعارضة المسلحة، أو حتى الدول الداعمة لها، في الرهان على أن تنجز المجموعات المسلحة تقدماً ملحوظاً في دمشق أو غيرها من المناطق التي تترك رسالة عن تحقيق نصر استراتيجي. فصار واضحاً، من كل التجارب السابقة، أنّ كل هجوم من هذا النوع يكلف المجموعات المسلحة ألف قتيل على أقل تقدير قبل أن تنكفئ خائبة». يستدرك المصدر: «صحيح أنّ الدول المشغلة للمعارضة لا تأبه لعدد قتلاها، ولكن رغم هذا الاعتبار، فإن الكلفة المرتفعة لهذا النوع من الهجمات سربت إلى نفوس المسلحين الخوف من غمار دخولها في أيّ تجربة هجوم جديد ضمن هذا المضمار. أضف إلى ذلك أن الدول الداعمة لها صار لديها رهاب تكرار مشهد دفع آلاف إلى الموت المحتم في معارك نيل أهداف واهية». وخلاصة القول في هذه الجزئية إن المعارضة ومشغليها انتقلا من مرحلة اقتناعهما بنظرية «استعصاء الدم» إلى مرحلة «رهاب الدم». ويلفت المصدر إلى أنّ البيئات التي تأوي إليها المجموعات المسلحة لاستعمالها كحاضن لها، أصبحت تخشى القيام بهذا الدور حتى لو أرادته، لتيقّنها من الكلفة العالية غير المضمونة النتائج. وهذا ما قاد هذه المجموعات إلى الوجود في بيئات حاضنة تقوم باحتلالها عنوة عن إرادة أهلها.
وقال المصدر «نسمع عن خطط للحسم العسكري لصالح المعارضة يخطط لها في عواصم خارجية، منها «خطة حصار المدن السورية الخمسة» و«خطة معركة دمشق»... ومشكلة المخططين أنهم لا يعرفون حقائق الجغرافيا، وأن الأرض ليس لديها قابلية لإسقاط خططهم عليها».
ويشرح المصدر نقطة أخرى ضمن المعاني الكبرى المستخلصة من أزمة العامين، وذلك من قبل العدو قبل الصديق، ومفادها «أنّ الوجع السوري بات ينتقل إلى دول أخرى، لبنان والعراق وأيضاً الأردن الذي يحاول كبت تداعيات الأزمة السورية عليه قدر الإمكان». وبحسب المصدر، فإنّ «مساحة المنطقة المرشحة لوصول تداعيات الحراك التكفيري في الأزمة السورية إليها تتعدى الساحة العربية، وستصل بالضرورة إلى أوروبا. فالمشرق العربي يقع على الضفة القديمة للمتوسط المقابلة للضفة الأوروبية القديمة، وأمنهما ضد الإرهاب العالمي واحد. وهذا الأمر تعرفه أوروبا. وخلال المرحلة الماضية كنا قد أوصلنا هذه الفكرة إلى بريطانيا وفرنسا. وأبدت الدولتان حينها تفهمهما لهذا المعنى الاستراتيجي. ولكن تضع بريطانيا الآن يديها على عينيها، على نحو غير عقلاني. وأكثر ما يدعو إلى الحيرة هو موقف فرنسا التي تبدو كأنها تغامر في مدّ الحبل للإرهاب في سوريا ومنها في كل المشرق، رغم تيقن مؤسستها الأمنية أن الانتشار التكفيري هنا له تتمة عندها». يستدرك المصدر ليقول: «معلوماتنا أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ارتكب خطأً غير معهود في البلدان التي يسودها منطق الدولة. فمثلاً، في إيران حصلت ثورة، ولكن القيادة الجديدة لم تمس بنية الأجهزة لديها، أو أرشيفها الأمني المتراكم، بل غيّرت فقط رأس الهرم فيها، وأزاحت قيادتها المرتبطة بالشاه. فالأمن الوطني لأي دولة هو معادلة ثابتة لا تتغير مع تغير الحكومات أو حتى الأنظمة. هولاند كما وصل إلينا، لم يراع هذه النقطة، وأحدث تغييرات وانقلابات مسّت معادلة الأمن وذاكرة التراكم العملي والمعلوماتي في مؤسساته. ويقال حالياً إن الإليزيه استدرك هذا الخطأ ويحاول سريعاً إصلاحه، وإعادة معادلة أمنه الوطني إلى العمل بوصفه جهداً متصلاً مع الجهد الذي سبقه، وخاصة في مجال مكافحة الارهاب».
في معنى آخر مهم مستخلص من وقائع الأزمة السورية، يكشف المصدر عينه «أن توجه الدول الداعمة للمعارضة السورية، الذي اتسم بتكرار نفس مشهد كل من مصر واليمن وليبيا في سوريا، ثبت عقمه. وعليه فإن أيّ تسوية تشترط تنحّي الأسد، معناها إدخال سوريا في فوضى عارمة وليس في عملية انتقالية. لا يوجد عنوان لضمان استقرار معنى بقاء الدولة في سوريا غير الرئيس الأسد. وهذا أمر حساس إلى درجة أنه يجب على المجتمع الدولي أن يقول للأسد ابقَ في حال قرّر هو ترك منصبه. فتنحّي الأسد هو كلمة السر لمؤامرة تدمير سوريا وإغراقها في فوضى من شأنها تمزيق وحدتها، وجعل كل حيّ في سوريا إمارة منقادة من أمير ومتطاحنة مع الإمارة المجاورة لها». يضيف المصدر «من هنا تعتبر سوريا أن شعار تنحّي الأسد هو الوجه الآخر لشعار تدمير سوريا». ويلاحظ المصدر أن «الغرب يهرب من التسوية التي تنقذ سوريا. فكلما رفعت الدولة السورية عنواناً للحل يبتعدون عنه: رفع الأسد عنوان الحوار من دون شروط حتى مع المسلحين بعد إلقاء سلاحهم، فرموا بوجهه الشروط. ورفع شعار صناديق الاقتراع مع إشراف مندوبين دوليين، فاغفلوه. إنهم يعرفون أن صناديق الاقتراع ليست في مصلحة أعوانهم المعارضين والمسلحين. فهؤلاء في أقصى عدد لقاعدتهم الشعبية لن يصلوا إلى أكثر من مئات الآلاف. ولكن الغرب محكوم برؤية الواقع في النهاية، يقول المصدر، علماً بأنّه لا يتوقع أن تكون نهاية المخاض الدولي في الأزمة السورية لقاء الرئيسين بوتين _ أوباما، فهما سيناقشان «الأمور على مدى أبعد».