على قدميه يتجه نائب رئيس مجلس النواب السابق ميشال ساسين من منزله إلى مقر اللقاء الأرثوذكسيّ في الساحة التي تحمل اسمه. يقوده «كوريدور» أبيض طويل في الطبقة الثامنة فوق «حلويات الدويهي» إلى مكتب اللقاء. حين سأله زميله النائب السابق نصري المعلوف عشية انتخابات 1968 عمّا إذا كان بـ«كامل عقله يفكر بمواجهة مؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل والأجهزة وحزب الطاشناق وأموال الصحناوي»، أجابه بأنه «يخوض معركة الأرثوذكس»، فانتصر يومها.
الأرثوذكس هنا كثر، يتقدمهم النائب السابق لرئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي وزميلاه مروان أبو فاضل وسليم حبيب، فيما الأمين العام للقاء نقولا سابا يرحب إلى جانب أعضاء هيئته الإدارية ورؤساء لجانه بالإعلاميين. الضيف اليوم السفير الروسي في لبنان الكسندر زاسبكين. تعلم سعادته اللغة العربية في دمشق، والتأخر عن مواعيده في بيروت.
والواقع أن زحمة المواعيد في مفكرة الرجل توازي زحمة السير الأشرفيّ التي قال إنها أخرت وصوله. فبموجب دور الأمبراطورية المستجد، لا يمر أسبوعان إلا ويلتقي سعادته رئيس الحكومة وثلث الوزراء. يشدد على أهمية «منع لبنان تهريب السلاح وتسرّب المقاتلين إلى سوريا». ولا تكاد بعض العواصم العربية تنفرد بالوزير عدنان منصور، حتى ينبري للدفاع عن موقف الحكومة اللبنانية في اجتماع وزراء الخارجية العرب. يوصل ما انقطع بين بلده والنائب وليد جنبلاط، ويتجه صوب البطريركية المارونية لترتيب زيارة غير عادية للبطريرك بشارة الراعي لموسكو بهدف «تكريس التلاحم بين مسيحيي الشرق الأوسط وروسيا». يزور الوزير السابق وئام وهاب، يشارك في عشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، يستوضح عن فلان وفلان وفلان، يقرأ تسع صحف عربية، ويستعجل الإطلال من بنشعي إثر تصريح السفيرة الأميركية مورا كونيللي عن وجوب إجراء الانتخابات في موعدها (وتقصد: وفقاً لقانون الستين) ليؤكد «وجوب إجراء الانتخابات بتوافق، لا بأوامر من الخارج».

ويذهب الرجل في متابعته تفاصيل التفاصيل إلى حد زيارة الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة قبل الظهر، ومشاركة «جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان» احتفالها بيوم المرأة العالمي بعد الظهر، وعقد اجتماع بين الاجتماعين مع رئيس «الحركة اللبنانية الديموقراطية» جاك تامر.
عند باب «اللقاء الأرثوذكسي»، تستقبله قبلات سابا ووجوه عدة تحب التقبيل وتحمل شهادات عليا في ما بعد بعد المديح. تكرس زيارته شرعية اللقاء الأرثوذكسي، بحسب الفرزلي. يجلس الفرزلي في الكراسي الخلفية، تاركاً المنبر لسابا. يشير سابا إلى انتساب ثلاثة آلاف أرثوذكسي خلال عامين إلى اللقاء للمطالبة بحقوق الطائفة، حتى بات له في كل قرية أرثوذكسية مندوب. فيهز السفير رأسه؛ ولا أحد يعلم إن كان قد قرأ أو لم يقرأ ما كتبه اسكندر رياشي قبل نصف قرن عن قدرة سفارته، لو تفتح أكياس ذهبها، على امتلاك النفوذ كاملاً في قرى سابا. حان وقت شعر سابا: «روسيا الاتحادية اليوم وريثة قرون من الحضارة والمعرفة والثقافة و... الروحانية». «روسيا المعروفة بعدم المتاجرة بمحبّيها». «روسيا نصيرة الشعوب المظلومة». يذكّر سابا الحاضرين بتأسيس روسيا عام 1880 «الجمعية الأمبراطورية الروسية الفلسطينية التي أسهمت في بناء الكنائس والأديرة، وفتحت المدارس المجانية في كل أبرشيات الكرسي الإنطاكيّ». وحين كانت التقديمات القيصرية كثيرة، كثرت في منازل أرثوذكس لبنان صور قياصرة الروس، و«لم يكن يخلو بيت أرثوذكسيّ من ولد يدعى نقولا أو قيصر». وفي بهجة ما بعدها بهجة، يزفّ الأمين العام الأرثوذكسي خبر اللقاء الرئيسي: سرورنا كبير بحسم روسيا إحياء الجمعية الروسية الفلسطينية. قبل أن ينبه الفرزلي في ختام كلمة سابا الحاضرين إلى وجوب التصفيق عند ذكر الأخير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بعده، يقف السفير الروسي خلف منبر اصطفت عليه «ميكروفونات» وسائل إعلام 8 آذار حصراً. تخاطب روسيا الشعوب بلغاتها، دون مترجمين. ويمكن سفيرها تدريب أكثرية السياسيين اللبنانيين على الطلاقة في الخطابة والوضوح وسرعة الإلقاء. كان زاسبكين في السادسة عشرة من عمره حين التحق بمعهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية في «الاتحاد السوفياتي». وفي أيام «حافظ الأسد – الاتحاد السوفياتي» كان شاباً يتدرب على الدبلوماسية في دمشق، ليعود فور تخرجه إلى القنصلية الروسية في حلب. فهم هناك باكراً ما يستصعب كثيرون فهمه اليوم. ومن حلب انتقل إلى سفارة بلده في دمشق. «لا يفترض، بحسب قناعاته، أن يختلف موقع بلده في الشرق الأوسط اليوم عمّا كان عليه أيام الاتحاد السوفياتي». في حديثه عن «مكافحة الإرهابيين» و«وضع حدّ للأعمال التخريبية» يقول الرجل ما لا يقوله دبلوماسي آخر.
يخاطب اللقاء الأرثوذكسي الآن: «وجوهكم تريحني وسيكون لهذا اللقاء نتائج إيجابية طويلة الأمد. نحن نصنع مع شركائنا في العالم استراتيجيا. ثمة مرحلة جديدة اقتصادية سياسية وأمنية تزداد فيها المخاطر. ما يحصل في أوروبا يرتبط ببلادكم». هو لا يقرأ من ورقة، لكن الأفكار تتسلسل بوضوح في رأسه وعلى لسانه: «دول البريكس نموذج من النوع الجديد من العلاقات بين الدول الذي تسعى روسيا إلى تعميمه». يكرر فكرة سابقة بوضوح أكبر: «بعض القضايا المحلية في الشرق الأوسط هي في الوقت نفسه إقليمية ولها آثرها الدوليّ». يتجه إلى سوريا من طريق ليبيا: «ما عجزنا عن فعله في ليبيا، حققناه في سوريا. حل الأزمة يجب أن يكون سلميّاً. لا بدّ أن تتساوى كل مكونات المجتمع السوري في الحقوق». تفلت إثر عبارته الأخيرة صفقة في القاعة. قبل أن يتحدث زاسبكين مسيحياً: «نحن نعير أرثوذكسيي الشرق الأوسط عناية خاصة. لا بدّ من تأمين حقوقهم وإيقاف هجرتهم. مؤسف ما حصل في بعض الدول، ولا بد من الحؤول دون تكرار ذلك في سوريا أو أية دولة أخرى». وبوضوح: «هذه المنطقة أصل الدين المسيحيّ، والمسيحيون مواطنون في دولهم». والآن زبدة اللقاء: «يسرنا تطوير علاقاتنا، سواء مع الكنائس أو على المستوى الشعبيّ. لدينا تراث مشترك. تمّ تجديد نشاطات الجمعية الروسية الفلسطينية، وستشمل حركتها عدة دول من بينها لبنان. سنطلق في السنوات المقبلة المشاريع كما كنّا منذ مئة عام. وسنوصل المؤسسات الاجتماعية الأرثوذكسية الروسية بمؤسساتكم، ورجال أعمالنا برجال أعمالكم، ومثقفينا بمثقفيكم».
تمر دقائق وسابا يصفق. يتناول الحاضرون «البتيفور»، يتبادلون الأنخاب، يكتب السفير مطولة على سجل الشرف في اللقاء وسابا ما زال يصفق. وفيما يخطف الفرزلي السفير إلى خلوة يستمع فيها خلافاً لعادته أكثر مما يتكلم، يتسلل ساسين مغادراً، فيما الحاضرون يتذكّرون شعر سابا: «روسيا الحضارة والمعرفة والثقافة و... الروحانية»، «روسيا التي لا تتاجر بمحبيها»، «روسيا يا نصيرة الشعوب المقهورة».