«حركة النهضة.. شدة وتزول». شعار كُتب على جدار بأحد الشوارع الرئيسية في قلب العاصمة التونسية. رسالة تخزن شحنة دلالية تعبّر عما أصبح يشعر به قطاع واسع من التونسيين، جزء كبير منهم انتخبوا الحزب الإسلامي. سنة ونصف سنة مرّت، تقريباً، عن إعلان نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، وما زالت غالبية الملفات التي تعهد الفريق الحاكم الجديد حلّها في حالة انتظار. فالمناخ السياسي في البلد يتسم بالاحتقان والتشنج نتيجة غلبة ممارسة أسلوب العنف ضد الجميع من طرف ميليشيات شبه عسكرية مقربة من حركة النهضة.
وتجد الحكومة الانتقالية صعوبات جمّة لتجاوز إرث انخرام المنظومة الاقتصادية التي سار على أساسها النظام السابق. «لبرلة» مفرطة لجميع نواحي الحياة الاقتصادية للبلاد أفرزت عدم توازن في توزيع الثروة. نمط تنموي يسير وفق وتيرتين مختلفتين في السرعة، استفادت منها حلقة صغيرة من الأثرياء، بينما عمّ الفقر القاعدة الواسعة من المجتمع. فمن البديهي في مثل هذه الوضعية، أن ينتفض القابعون في أسفل الهرم الاجتماعي من أجل التمتع بجزء مما تنتجه البلاد من خيرات. ثورة الخبز والكرامة كانت تمرداً شعبياً هائلاً على سياسة اقتصادية فشلت في النهوض بتونس. وفي مثل حراك كهذا، لا شك أن أية سلطة ستخرج من رحم الثورة ستضع على سلم أولويّاتها التخلص من عبء برامج تجاريّة ومالية ثبت فشلها في الرقي بالبلاد.
لكن لا شيء تغيّر. فالتشكيلة الحاكمة الحالية لم تتخلّ، ولو جزئيّاً، عن النموذج الرأسمالي التي انخرطت فيه البلاد منذ سنة 1981.
ومع ذلك، تواصل السلطة الحاكمة الحالية ذات الطريق الذي انتهى بمن سبقها إلى حدوث انفجار اجتماعي.
وفي حقيقة الأمر، لن يتناول هذا النص قضية الخيارات الاقتصادية التي من الأنجع اتباعها. وإنما الغاية من التعريج على ذلك المعطى، هو الإشارة إلى أن الأسباب التي أدت إلى ثورة التونسيين ظلّت على حالها، ولا تبدي أية مؤشرات من أجل القضاء عليها.
فجحافل العاطلين من العمل في ازدياد، وضنك العيش يطاول تدريجاً ما يُصنف ضمن الشرائح الاجتماعية المتوسطة.
وإذا حسبنا أن هناك «رأسمال وطني» (لنقل إنهم الأثرياء التونسيّون) فإن تأثرهم، إيجاباً أو سلباً، بتشبك أذرع أخطبوط الفساد الذي كان السائد طوال الخمسين سنة الماضية، يجعل من الصعوبة بمكان أن ينخرطوا، بعفوية وعن حسن نية، في مشروع شامل من أجل بناء اقتصادي وطني، ما لم تفرضه عليهم أجهزة الدولة.
وليس مستغرباً في هذا السياق، أن تبحث مكونات الطبقات العليا في المجتمع عن أغطية سياسية تحميهم من غضب قاع المجتمع بعد انقشاع الغطاء الذي كان يوفره لهم الحزب الحاكم الأسبق. وإن كان جزء كبير منهم قد وجد ضالته في حركة النهضة، فإن البقية التي تشبعت بالتصور الحداثي للمجتمع لا يزال البحث جارياً لديها.
حركة النهضة حصلت على ما يناهز مليوناً وربع مليون صوت في الانتخابات الماضية. هذه القاعدة الانتخابيّة لا تنتمي جميعها إلى ذلك التنظيم، وهي في الغالب لا تفقه من المشروع الحضاري الذي يحمله الإسلاميون من شيء. فما يميّز شخصية التونسي أنّه دائماً يقف مع الغالب. فمثلما انصاع خلف الأنظمة الجائرة التي سيّرت أمور البلد في السابق، ها هو اليوم يلتحق بركب حزب جديد يروّج لكونه البديل المختلف عن سابقه. ولا يغرينَّنا في شيء خروج بضعة من عشرات الآلاف من التونسيين إلى الشارع أيام الثورة.
فالأصوات المحافظة التي تنأى بنفسها عن التغييرات الجذرية في صلب المجتمعات هي عادة الأكثر حجماً. وفي طبيعة الثورات، ترجّح دوماً كفة التائقين إلى إعادة الأمور إلى نصابها على حساب المتزعّمين لأحداث انقلاب مجتمعي راديكالي. وحركة النهضة استطاعت الحصول على ثقة مئات الآلاف من الذين يحنّون إلى عودة الهدوء. هذا الاستقرار المزيف الذي كان يوفره النظام السابق بفضل جبروته، لا يُمكن أن يتحقق من جديد بنفس الأسلوب القديم. فلقد ولى زمن الاستبداد بنفس الآليات. لذلك، من الضروري خلق استبداد جديد بوسائل أخرى لتطويع القوى المتمردة في المجتمع، وليس أكثرها نجاعة في عالمنا العربي سوى توظيف الدين الإسلامي لتحقيق تلك الغاية.
هل يمكن أن يكون الإسلام ديناً ودولةً في نفس الوقت؟ ليس ذلك موضوعنا. غير أن إسلاميّي تونس أصبحوا على رأس الحكم الآن. ويزعمون أنّ مرجعيتهم الفكريّة تجد ظلالها في الدين المحمدي.
ولكن للسياسة قواعد أخرى. فهي قذرة بالضرورة. والسياسي الناجح هو ذلك الشخص الذي يستطيع أن يسوّق نفسه في صورة ذلك الشخص المثالي الذي يقدر على مشاكل عصره، وهو الذي يكيد المؤامرات وينسج الدسائس ضدّ خصومه. ولم تكن حركة النهضة بمنأى عن ذلك.
فمنذ تأسيسها في أوائل الثمانينيات، كانت النهضة، مثلها مثل بقية الأحزاب، مسرحاً للخصومات ولتضارب المصالح ولصراع الزعامات.
فبعد سنوات من التأسيس، انشقت مجموعة من قياديي حركة الاتجاه الإسلامي (الاسم القديم لحركة النهضة) عن الحزب ليضعوا اللبنات الأولى لما سُمي حينها تنظيم «الإسلاميون التقدميون» الذي سرعان ما أُجهض. ثم أتى الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم في 7 نوفمبر 1987، ليدفع الحركة نحو التأقلم مع وضعية سياسية غير منتظرة قسمت الحركة السياسية إلى تيارين؛ أولهما يدعو إلى الانقضاض على سلطة لا تزال مضطربة بعد إزاحة الزعيم السابق، وثانيهما يرى أنّه لا مفر من الانخراط في الحياة السياسية وتوقيع وثيقة «الميثاق الوطني» الذي مثّل الخيمة التي جمعت مختلف القوى السياسية في تلك الفترة تحت حضن الرئيس السابق بن علي.
وباشتداد القبضة الأمنية الّتي نالت من الإسلاميّين قبل أن تطاول بقية مكونات الحركة الديموقراطية واليسارية، انكمشت حركة النهضة على نفسها، وانفرط عقدها التنظيمي بعد زج المئات من قيادييها بالسجون وهجرة آخرين إلى الخارج.
وإثر الثورة، وجدت حركة النهضة التي انكفأت على نفسها في السنوات الأخيرة قبل إزاحة بن علي، في موقع الحكم بعد أن منحها جزء من أبناء الوطن ثقتهم.
ولم تمر أشهر قليلة بعد إعلان حكومة سيطر عليها النهضويّون، حتى وجد حكام تونس الجدد أنفسهم أمام معادلة جديدة. فقيادة حزب قليل العدد ينشط في السرية أيسر بكثير من إدارة حزب يحكم البلاد. وطبيعي في مثل هذه الحال، أن يجد هؤلاء مشاكل هيكلية في تصريف شؤون الدولة وأن يلقوا المسؤولية في عجزهم ذاك على الإرث المتراكم منذ الأنظمة السابقة أو يحملوها إلى أحزاب المعارضة.
فها هو الرجل النافذ في الحركة نور الدين البحيري يصرّح بأنّ حزبه أخطأ لمّا تحكم في كامل مفاصل السلطة. موقف يفسح المجال أمام التزام حركته المعلن أخيراً مع الفصائل السياسية التي شكلت الحكومة الانتقالية الثانية عن عزمها على التراجع عن التعيينات التي قامت بها خلال الفترة الماضية. خطوة أولى شجاعة تكشف عن «تهور» غير محمود للتغلغل في أجهزة الإدارة التونسية بذات الطريقة التي كان ينفّذها بن علي.
وفي الأثناء، تزايدت الأصوات داخل الحركة من أجل القطع مع نمط التسيير الحالي. ذلك أنّ الجمع بين العمل الدعوي والخيري وبين النشاط السياسي المباشر أصبح ينفر جزءاً متزايداً من كوادر النهضة. فها هو الرجل الثاني في الحزب عبد الفتاح مورو يتحدّث لوسائل الإعلام عن ضرورة القطع مع النموذج «الإخواني» في العمل الحزبي. ولا يُشك في نيات مورو الذي يسير في غالب الأحيان، خارج السرب الطاغي لإسلاميي تونس، التائقة لأن يبقى حزبه في قمة القوى السياسية التونسية، غير أن مشروعه الإصلاحي يصدم بسطوة القائد الروحي راشد الغنوشي الذي لا يخفي إعجابه ببناء دولة تونسية على الشاكلة الإيرانية.
مثقف البلاط النهضوي أبو يعرب المرزوقي كتب منذ أيام في رسالة استقالته من الحكومة ومن عضوية المجلس التأسيسي عن «عدم الانسجام أو لغياب الرؤية الواضحة للسياسات المتبعة أو لعدم وجود القيادات المسموعة» داخل الهياكل العليا لحزبه. فإذا كان عدم الانسجام لا يُعدّ أمراً سلبياً، فإن غياب الرؤية للسياسات المتبعة هو أكثر من جلي لدى حزب لم يعِ بعدُ أن السياسة ليست شأناً يهمّ أئمة المساجد. فإدارة شؤون الدولة تحتاج إلى هامش أوسع من البراغماتية لا يُمكن أن يوفره الورع الديني. وحالة التصدع التي تعيشها الحركة حالياً، تعبّر لا محال، عن الأزمة «الهوياتية» التي يمرّ بها النهضويون حالياً.
وعدم القدرة على التوفيق بين الدورين يهزّ حالياً أركان الفريق الحاكم. فمجمل المعضلات الاجتماعية ظلت على حالها. والتوترات السياسية المتكررة تكاد تعصف بذلك الحزب الذي لم يجد أية طريقة لحسن مواجهتها إلا بالاستعانة بعمليات الشحن المعنوي عبر تعبئة الشارع في تظاهرات استعراضية كلما أحاط الخناق بذلك الحزب. وكادت عاصفة سياسية تلت اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد أن تقصم ظهر الحزب الاسلامي لولا خيانة القوى اليسارية وتراجعها عن المواجهة الحاسمة.
والنهضة الآن تُصارع من أجل الحفاظ على موقعها كأهم طرف سياسي بالبلاد عبر استنزاف نفس الخطاب الديني الذي يستميل وشائج الناس. لكن ذلك الخطاب ستنفد عن قريب قوته، وستتقلص فاعليته، ولن يكون أمام النهضويّين سوى أمر واحد، التحسّر على أيّام مضت دون أن يستغلوها ليتحوّلوا إلى حزب مدني وسلميّ.
* صحافي تونسي