رام الله | أمام المحكمة الإسرائيلية العليا في القدس المحتلة، حيث تجرى التحضيرات للمصادقة على قانون «المواطنة والدخول إلى إسرائيل» للمرة الثالثة عشرة، أقام ناشطون من حملة «الحب في زمن الأبارتهايد» حفل زفاف رمزياً؛ فتاة فلسطينية من الداخل المحتل تجلس على كرسي أمام المحكمة، مزدانةً بثوب الزفاف الأبيض، وإلى جانبها كرسي فارغ، تابع لشريكها الرمزي من الضفة الغربية، ومن خلفها رفع ناشطو الحملة لافتات كتب عليها: «قوانين إسرائيل تمنعنا أن نحب»، «إسرائيل في غرف نومنا»، «حبك ثورة». لا تكتمل مراسم الزفاف، وتمدّد المحكمة العمل بالقانون.
هذا ليس أول زفاف تنظمه الحملة؛ فقد نظمت الشهر الماضي حفل زفاف آخر عند حاجز حزما العسكري. في حينه، تقدّمت الفتاة نفسها على أحد طرفي الحاجز، متشحة بالبياض، واضعة الطرحة التي بدت على شكل الكوفية الفلسطينية. وقابلها شاب من مدينة أبو ديس على «الضفة» الأخرى. لتنطلق بعدها الزفة مصاحبةً بأهازيج الأعراس الشعبية الفلسطينية؛ وهنا يقتحم جنود الاحتلال هذا المشهد الحالم، لينتهي على وقع قنابل الصوت الغازية.
مرة أخرى، يستلهم الشباب الفلسطيني الأدب في مواجهة الاحتلال. جاءت تسمية حملة «الحب في زمن الأبارتهيد» تيمناً برائعة الأديب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز (الحب في زمن الكوليرا). ومرة أخرى أيضاً، يقفز الاحتلال على مجاز الراوي الفلسطيني الذي يعيش الحكاية في يومياته، ويقيد كل شعور ثائر ومتمرد لديه: الخيال، الحلم، وحتى الحب.
تلك الفعاليّات هي بعض ما ينوي نشطاء حملة «الحب في زمن الأبارتهايد» تنظيمها. الحملة ذات مرجعية وطنية تُدار نشاطاتها بشكل مستقل، كما يقول منسق الحملة وافي بلال لـ«الأخبار». ويضيف: «نعقد اجتماعات أسبوعية بين النشطاء من مختلف مناطق فلسطين التاريخية، وننوي أن نقوم بفعاليّات مماثلة بهدف تحريك القضية على المستوى العالمي». تأتي هذه الحملة كنداء ملحّ لخطر يتهدّد حياة 130 ألف عائلة فلسطينية، مصيرها ومستقبل أطفالها معلقان بقانون منع لمّ الشمل.
قانون «المواطنة والدخول إلى إسرائيل»، الذي يمنع لمّ شمل العائلات الفلسطينيّة، سنّته دولة الاحتلال عام 2002 بعد انطلاق الانتفاضة الثانية، متذرّعة بأسباب أمنية. وأقره الكنيست والمحكمة العليا الإسرائيليان في العام التالي. ومنذ ذلك الوقت، لا يزال القانون، الذي يحمل صفة «أمر مؤقت» يتجدد بشكل دائم. وقوبلت كل الالتماسات المقدّمة إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لإلغائه بالرفض.
يمسّ القانون كل عائلة فلسطينية يحمل الزوج فيها أو الزوجة هوية إسرائيلية. وبموجبه، تحرم العائلات التي تقدمت بطلب للمّ الشمل بعد عام 2003 من الحصول على طلبها. أما العائلات التي تقدمت بطلبات قبل هذا العام، فهي ليست أفضل حالاً أيضاً؛ فمن تمت الاستجابة لطلباته، لم يحصل إلا على تصاريح، أو إقامات مؤقتة في أحسن الأحوال.
القانون لا يمسّ فقط العائلات التي يحمل أحد أفرادها الهوية الإسرائيلية، «بل يهدد الأجيال الفلسطينية القادمة، ويمنع التواصل الطبيعي في ما بينها»، كما يقول بلال. وإن كانت إجراءات الزواج العادي معقدة في الغالب، فإنه إذا تزوّج فلسطيني يحمل الهوية الفلسطينية، بفلسطينية تحمل الهوية الإسرائيلية أو العكس، فستلاحقهما التعقيدات إلى آخر حياتهما الزوجية: إما أن تعيش الزوجة في الضفة مهددةً بفقدان هويتها الإسرائيلية، وحينها لن يتمكن أطفالها من الحصول على الهوية الإسرائيلية، وبالتالي سيحرمون من التمتع بحقوقهم الطبية والاجتماعية والتعليمية داخل إسرائيل؛ أو أن يعيش الزوج هارباً ومتخفّياً داخل دولة الاحتلال، ومهدداً بالطرد في أي لحظة، وممنوعاً عليه حتى التنقل بحرية داخل «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». وفي بعض الحالات، يحصل الأطفال، في حال ولادتهم، في المستشفيات الإسرائيلية على إقامة داخل إسرائيل، لكنهم يحرمون من الحصول على الجنسية في كل الأحوال.
ولذلك، تلجأ بعض العائلات إلى الهجرة إلى الخارج طلباً للخلاص، وبحثاً عن الاستقرار المنشود. وفي حالات أخرى، قد يتعدّى الأمر ذلك ليصل إلى الانفصال بين الزوجين.
وفي ظل خوف إسرائيل من تنامي أعداد الفلسطينيين داخلها، وحملات تهويد وطرد شرسة في القدس المحتلة على وجه الخصوص، يأتي هذا القانون ليصيب هدفين بحجر واحد: أوّلاً، منع الفلسطينيين من العيش داخل الأراضي المحتلة عام 1948، في ظل حديث مستمر عن «القنبلة الديموغرافية» التي تهدد الطابع اليهودي للدولة؛ ثانياً، طرد الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الأراضي المحتلة، ولا سيما القدس، إلى خارجها، بحثاً عن الاستقرار، والعيش تحت سقف واحد، فيما يشبه «الترانسفير الطوعي».

لون البطاقة عدوّ الحبّ الأول

مفارقة طريفة أن تتحوّل أسئلة العائلة عن نسب المتقدم للزواج، عمره، عمله، أخلاقه، علمه، إلى السؤال عن لون هويته: «زرقاء إسرائيلية أم خضراء فلسطينية». وأن تصطدم مشاعر الشباب الفلسطيني، التي لا تعرف حدوداً، بلون الهوية، بدلاً من تعنت الأهل، أو عسر الحال. لا تبعد جنين في شمال الضفة عن الناصرة الكثير، لكن إذا أراد شاب من جنين أن يرتبط بفتاة من الناصرة، تمتد الطريق بينهما كالمسافة التي تفصل اللاجئ في المخيم عن داره التي فقدها، أو كالمسافة بين الفلاح وشجرة زيتونه التي لا يفصله عنها سوى بضعة أمتار وجدار، ويطول الزمن بينهما كأربعة وستين عاماً من النكبة.
أخطر الحواجز ليست تلك التي تُنصب في الطرقات، بل هي تلك الحواجز المبهمة التي تتوغل حتى داخل البيت الفلسطيني الواحد. مشكلة لمّ الشمل لا تمسّ العائلات المتصاهرة فحسب، بل تمتد داخل العائلة الواحدة كذلك. هناك عائلات يحمل بعض أفرادها الهوية الإسرائيلية، والبعض الآخر يحمل الهوية الفلسطينية، وخصوصاً في المناطق القريبة من القدس المحتلة، كقرى: قلنديا، حزما، كفر عقب وغيرها. وقد يُجبر أفراد العائلة الواحدة على تغريب الزواج. ويتعدى الأمر ذلك ليقسم حتى الأسرة الواحدة ذات العدد المحدود من الأفراد، كما حصل مع إحدى الأسر الفلسطينية، حيث أنجبت الزوجة الحاملة للجنسية الإسرائيلية خمسة أطفال في الضفة، ليحصلوا لاحقاً على الهوية الخضراء. وخشية فقدان هويتها، قررت الزوجة الانتقال إلى بيت أهلها داخل فلسطين المحتلة، وهناك أنجبت طفلين بهويات زرقاء، لتحصل على أسرة مشتتة، وملونة، ومتعددة الجنسيات.
في إحدى القرى العربية داخل دولة الاحتلال، تعيش أسرة أسعد بعيداً عن أعين الشرطة الإسرائيلية في حال عزلة وتكتم شديدين. التشتت والانفصال هما كابوس يومي يؤرق تلك العائلة. أسعد المتزوج بفتاة فلسطينية في الداخل، يحمل الهوية الخضراء، ولديه ثلاثة أبناء يحملون الإقامة الدائمة، بحكم أنهم ولدوا في المستوطنات الإسرائيلية. أما هو، فقد دخل الى فلسطين المحتلة أول مرة بتصريح دخول مؤقت. ومنذ ذلك الوقت، يعيش هناك «خارجاً عن القانون»، أو متمرّداً عليه بالأحرى. تقتصر زيارته لأهله في إحدى قرى الضفة الغربية على الأعياد فقط، مستغلاً «التسهيلات» الإسرائيلية الموسمية. وفي أحيان أخرى، يضطر إلى قضاء العيد بعيداً عن أهله، وتنوب الزوجة عنه في زيارة الأهل، مصطحبةً معها الأطفال، كي يراهم الجدان بعد غياب طويل. ليست هذه هي المهمة الوحيدة التي تتكفل بها الزوجة، فهو لا يستطيع التحرك بحرية، أو الذهاب إلى مكان عام، أو أخذ أطفاله في نزهة إلى البحر القريب آخر الأسبوع، لأن مغامرة كتلك قد تكلفه النفي إلى «الضفة» الأخرى.

جدار فصل العائلة

في قرية الرام، على مرمى حجر من القدس المحتلة، يعيش عبد الله سلامة وابنه ذو الستة عشر ربيعاً. وعلى الجانب الآخر من المدينة، في قرية عناتا القابعة خلف الجدار، تعيش زوجته وطفلاه القاصران. لم يحدث الانفصال بسبب شجار، أو خلاف عائلي. هو انفصال قسري بفعل قانون لمّ الشمل الإسرائيلي؛ فالجدار الذي يفصل البلدتين يمتدّ حتى ليفصل أفراد العائلة الواحدة، ليُجبر الزوج، الذي يحمل الهوية الخضراء، وابنه البكر على السير طويلاً في طرق التفافية وعرة في زياراته المتفرقة لزوجته. أما الزوجة، التي تقيها هويتها عناء الطرق الالتفافية، فتضطر إلى العودة إلى بيتها في زيارات خاطفة مرة أو مرتين في الأسبوع. قرار الزوجة بالانتقال للعيش في القدس المحتلة جاء نتيجة خشيتها أن يزور بيت أهلها في القدس موظفو الإحصاء الإسرائيلي وهي غائبة، فتفقد هويتها، وتفقد معها الأمل في أن يحصل طفلاها الصغيران أيضاً على الهوية. وبما أن طفليها لم يحصلا على الهوية الإسرائيلية بعد، فهما لا يحصلان على فرصة التعليم المجاني، فيضطران إلى الانتظار طويلاً في زحمة حاجز قلنديا، في رحلتهما اليومية الشاقة إلى بيت أمهما، عائدين من إحدى المدارس في الرام.
أسرة عبد الله سلامة هي واحدة من آلاف الأُسر التي تقدمت بطلب للمّ الشمل بعد عام 2003، وبموجب قانون المواطنة، حُرمت الأسرة من العيش تحت سقف واحد.
أما أسرة أديبة، التي تعيش مع زوجها وأطفالها الحاملين للهوية الزرقاء في بلدة سلون داخل القدس المحتلة، فقد تقدمت بطلب للمّ الشمل قبل عام 2003، لكنّها أيضاً مهددة بالانفصال في أي لحظة، حيث لم تحصل أديبة إلا على «إقامة مؤقتة» يتم تجديدها بشكل دوري، وبفترات متفاوتة وغير منتظمة، أحياناً ستة أشهر، وأحياناً سنة، أو سنتين، «على حسب المزاج»، تقول أديبة متهكمة. وتخشى أن يتعكر مزاج وزارة الداخلية الإسرائيلية يوماً فتجد نفسها خارج بيت زوجها وأطفالها.
أن تحب في زمن الأبارتهايد، يعني أن تفهم كيف تكون بين «حبيبك وعينيك بندقيّة»، ويعني أن تكون مقاتلاً يصنع الحياة لا الموت، وحتى أن تعيش حياتك العادية بروتينها اليومي، كأن تلقي السلام على جارك خلف الجدار، أو أن تقطف زيتونك قرب المستوطنة، أو حتى أن تواصل الحياة دون تذمر. كل ذلك يمثل نوعاً من المقاومة في ظل احتلال يرى فيك تهديداً ديموغرافياً ووجودياً عليه. ومن باب المفارقة: إذا كان الحب بين أهل الداخل المحتل والضفة على سبيل المثال ضرباً من المقاومة، أو العناد، أو الضغط على المحتل، فقد يكون تمنع الفتاة المقدسية، التي تواجه التهديد والطرد يومياً، عن شباب الضفة ضرباً من المقاومة والصّمود أيضاً، لأنها تضحي بالحب من أجل الأرض.



دولة القوانين العنصرية

تظهر النزعة العرقية الإسرائيلية جليّة بالنظر إلى الهرمية العنصرية التي تتبعها إسرائيل في التعامل مع قضايا التجنيس والهجرة خصوصاً؛ فبحسب قانون «العودة» الإسرائيلي، يحق لكل يهودي في أي مكان في العالم أن «يعود» الى إسرائيل وينال جنسيتها. وبالتالي يتربع اليهودي على قمة الهرم، بينما يحصل الأجانب المتزوجون من حاملي جنسيات إسرائيلية، والأجانب الذين يعتنقون اليهودية في إسرائيل، على إقامة مؤقتة تتجدد كل عامين. وبحسب هذه التسلسلية العرقية، يقبع الفلسطيني في قاع الهرم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن البند 52 من إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ينص على حق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقليات معينة «بإقامة وتسيير علاقات حُرة ومُسالمة، من دون أيّ تمييز، مع أبناء آخرين لمجموعاتهم ومع مجموعات أخرى، ومع أشخاص ينتمون إلى أقليات أخرى، إلى جانب إقامة وتسيير علاقات عبر الحدود مع مواطنين من دول أخرى تربطهم بهم روابط قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية». وبناءً عليه، اعتبرت لجنة الأمم المتحدة للقضاء على كل أشكال التمييز العنصري في قرارها الصادر عام 2004 قانون «المواطنة» الإسرائيلي عنصرياً.



«إنه الخطر الديموغرافي»

عدد الذين قاموا بأعمال تصنّفها إسرائيل على أنها «خروق أمنية» يبلغ 26 شخصاً من حوالى 130 ألفاً يشملهم قانون منع لمّ الشمل.
ورغم ذلك، لا تزال إسرائيل تصرّ على أن المنع جاء «لأسباب أمنية»، ما يعني أن إسرائيل تعاقب ما يقارب 99 في المئة من العائلات لجرم اقترفه ما نسبته 1 في المئة منها، إن سلّمنا بادّعاءاتها وإحصاءاتها.
وتحت الذرائع الأمنية نفسها، عمدت إسرائيل الى تعديل القانون عام 2007 ليشمل المنع أيضاً سكان الدول «العدوّة»: لبنان، سوريا، العراق وإيران. وفي العام الماضي، أقرّت المحكمة الإسرائيلية العليا تلك التعديلات، ورفضت الالتماسات.
يومها، خرج القاضي الإسرائيلي، أشير غيرونس، مبرراً تصويته لصالح القرار في المحكمة بالقول «إن حقوق الإنسان لا تعدّ وصفة للانتحار قومياً»، ما يشي بأن الذرائع الأمنية التي تدّعيها إسرائيل ما هي إلا ساتر دخاني أمام قلقها من الخطر الديموغرافي الذي يعكر «نقاء العرق السامي» في الدولة.