كان ذلك بعد سنوات من إطباق حركة التوحيد أولاً، والجيش السوريّ ثانياً، على طرابلس. مطلع التسعينيات كانت المدينة عبارة عن دكان صغير تنبعث منه رائحة القهوة، أكياس الـ«تشيبس» فيه خضراء وزجاجات الـ«بيبسي» مجانية. كان حنان صاحب الدكان المسن ومداعبته اللطيفة لرؤوس أبناء أحفاده وسماحه لهم بمشاهدته يطحن القهوة، مدينة. ولا يسمع من المدينة المزدحمة حين يتحدث غير صوته. كان صوته مدينة. ولا مشكلة في خطف الأطفال كعكة من فرن المير، في طريقهم من الدكان إلى منزل جدهم: سيضحك صاحب الفرن لتأكده من أن فرخ البط عوّام، وتضحك والدتهم. يظنها الأطفال قريتهم: هنا جدتهم وعماتهم، نظرات «الآدمي» تلاحقهم بصرامة، فيما شقيقه يتبسم لهم، شيوعي بلدتهم الأول يناديهم ليقنعهم أطفالاً بماركسيته وخالاتهم يتسابقن على صقل شخصياتهم. حين تسهر في طرابلس لا يغلب النعاس الروايات قبل منتصف الليل، وتنام مطمئناً إلى أن واحداً من أجمل أصوات المؤذنين في العالم سيوقظك في اليوم التالي. ما كان يعتلي المآذن غير منافسي عبد الوهاب في التجويد. تظن الأزقة التي تقودك إلى حلويات التوم صباحاً أوسع شوارع العالم. هنا في مقاهي الشاي على جانبي الطريق سيقنعك الساقي بتقليد الأكبر منك في مطالعة الصحف، ويقنعك بعده بائع الكتب عند حديقة المنشية بشراء رواية منه اليوم وصرف مصروفك على الأفلام الخلاعية في دور سينما المدينة في يوم آخر. يحبك أهل سوق الأحد وتحبهم. لا تصدق أن أستاذاً تغيب عن صفه لتسرح في زواريب القبة وتمرح. هنا فقط، يسرح طلاب الجماعة الإسلامية وحزب البعث والزغرتاويون والعونيون والمستقبل والقوات في ملعب جامعيّ واحد ويمرحون. يعرفك أهل سوق الخضر وصيّادو المينا وأنت لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرك وتعرفهم. تبتعد عنها أو تبتعد عنك ولا تصدق. كل ما يقال كذب: لا يمكن السلم أن يهجّر من لم تهجّرهم الحرب، ولا يمكن بضعة سلفيين أن يفعلوا ما لم تقوَ حركة التوحيد على فعله. تعود لتقول كأنك تغني: «طرابلس كومة مدارس، عيادة الشمال وسوقه ومستشفاه ومدينة ملاهيه وبحر تحظى على أطرافه بطائرتك الورقية الأولى والسيجارة الأولى وقبلتك الغرامية الأولى». لكن لا تكاد تذكر جاراً إلا يشيرون لك إلى عنوانه الجديد، بعيداً عن المدينة. ولا تعدد متجرين إلا يضيفون إليهما ثالثاً أقفل أيضاً. حلت «محلات الثياب الشرعية» محل «محلات ريمون»، ومعهد الهدى للتعليم الديني محل جيرانك. لا يشبه الحيّ الحالي حيّك السابق بشيء. تتذكر الملحمة؛ تركض صوبها إذ ترى صاحبها لا يزال في كرسيه. تسأله بحماسة عن أوضاعه، فيكسرك: «فجراً أعلمني مسلح أن عليّ دفع عشرين دولاراً من الغد فصاعداً، ليس خوّة لأنني نصرانيّ، بل لأنه يحميني من قذائف النصيريين. سأقفل عصراً الملحمة وأرحل». وفي مكتبته، يتحدث ذلك الأب الأرثوذكسيّ المسيّس عن كل ما يحصل في العالم من دون أن يجيء على ذكر مدينته. طوت «مدينته الفقيرة العروبية» صفحتها. ما عادت رائحة طرابلس بنّاً، وما عاد صاحب «المير» يتبسم لسراق الكعك، وما عادت أصوات مؤذنيها تطرب ولا جامعتها تجمع.
لا علاقة للرئيس نجيب ميقاتي بالنفوذ السياسي في طرابلس محمد كبارة؛ باع أبو ماهر نفوذه لثلة زعران مسلحين. أغنى وزراء المدينة سائق عند أحد إسلامييها. يتفرج الجيش والقوى الأمنية ومختلف أجهزة الاستخبارات على استعراضات مسلحيها اليومية وحروب الشوارع وزعران الخوّات. ويسهم تيار المستقبل وحلفاؤه في ضخّ كل ما لديهم من تحريض مذهبيّ لعسكرة أبنائها وتطويعهم بحماسة أكبر في أخوات النصرة. وتقتل المدينة، بجنون ما عاد يوفر حيّاً ولا شارعاً، بعضها بعضاً. يدافع سياسيّو المدينة بجبن رهيب عن تحرش التبانة بجبل محسن بوصفه «تقاتلاً تاريخياً»، ويغذّي السياسيون قتال إسلامييها وزعرانها لتصفية حساباتهم بعضهم مع بعض. هي ما عادت مكاناً يمكن العيش أو حتى المرور فيه، يقول العكاريون الذين يقفزون فوقها عن طريق زغرتا_البداوي. لا يدعس في طرابلس منذ أشهر سائح أجنبي واحد ولا بترونيّ ولا زغرتاوي ولا بشراويّ بعدما كانت هذه مدينتهم. أي مدينة يطلق عضو كتلة المستقبل النائب معين مرعبي المقيم فيها النار على قواها الأمنية، ويسعى تلفزيونياً بوقاحة لتبرير فعلته؟ يكاد فعل المرعبي أول من أمس يكون أخطر بدلالاته وبكثير من أفعال أنصار تياره السياسي أمس.
ما عاد الجالس في «المِشيّة» يسمع أصوات سائقي الأجرة تحت ساعة التل يهتفون على مقاعد سياراتهم: «حلب حلب»، «لاذقية طرطوس»، «حمص، قرّب ع حمص». بات يسمع هتاف حيوانيّ: «نصيريّ، نصيريّ خنزير». ويلتفت في شوارع المدينة فلا يرى إلا أزلام اللواء أشرف ريفي يضربون ي. ب. أو يجردونه من ملابسه تحت المطر ويبصقون عليه ويجلدونه. يرى قوماً يجتمعون فوق جثته الحيّة منتشين، وقوماً آخرين يراقبونهم بصمت من متاجرهم وسياراتهم ورصيف الشارع. هذه طرابلس الحقيقية: لم يكتبوا على جبين الرجل «استخبارات سورية» كما ادّعت الدعاية المستقبلية لاحقاً في محاولتها تبرير همجية أنصارها؛ كتبوا «نصيريّ». تلك كانت تهمته وذنبه، قررت محاكم التفتيش الإرهابية. أما أجهزة الدولة اللبنانية، الجيش واستخباراته والقوى الأمنية، فتسلمت «الموقوف» شاكرة المنكّلين به على تعاونهم. ولعل الضابط المسؤول أشربهم فنجان قهوة بدل زجّهم في السجن. تنقل الوكالة الوطنية للإعلام_الناطقة الرسمية باسم الدولة اللبنانية_عن مندوبها في طرابلس أن «مجموعة من الشبان (!) قبضت (!) على رجل مشتبه به (!) على الصعيد الأمني (!) عند إشارة المرور في شارع عزمي (!) وسلمته الى مخابرات الجيش (!)».
في المساء تدور السيارة حائرة في أمر المدينة: تتأكد من مذاهب ركابها علّ حاجزاً طياراً لـ«مجموعة من الشبان» يوقفها، وتتساءل عمّا إذا كان يتعين عليها الذهاب عند الشيخ المتهم (سابقاً) بالانتماء إلى القاعدة نبيل رحيم لسماعه يتحدث عن ملائكة إسلامييها وجنسهم الفاضل أو تبحث عن جحور قادة المدينة الجدد الساعين بغالبيتهم للانتماء إلى القاعدة لاستصراحهم. ولا تلبث أن تعود أدراجها صوب بيروت. يسعد هناك أنصار الحروب الأهلية، المعجبون بملائكة رحيّم. هنيئاً لطرابلس بطرابلس تعريك من ملابسك إن كنت من الطائفة العلوية وتأمر بسوقك في شوارعها بالرسن عارياً إن خالفت أحد زعرانها حلمه السياسيّ.