لنفترض أنّ المرأة والرجل لم يُخْلَقا بعضهما لبعض. ولا عبرة في الانسجامات «الاجتماعيّة» أو الرضائيّة ولا في الانجذابات الخاطفة: الأولى اتفاقات تتعلّق بالتقاليد والمظاهر ولا تتّصل بالجنس والشغف، والثانية هي جوهر الموضوع، فكونها انجذابات خاطفة هو ما يطرح السؤال حول غلطة (أم لا غلطة) البناء على كون هذين الكائنين وُجدا ليتساكنا ويتحابّا ويحفرا الزمن بمسيرتهما المشتركة، أم أن ارتباطهما عقاب لهما.لا ريب في وجاهة الانخطافات العابرة. لا ريب إلى حدّ الظنّ بأنّها قد تكون وحدها المحتملة، بل وحدها الطبيعيّة. إذا صحّ ذلك تكون لانهائيّة العلاقات حلالاً ورحمة ويكون الارتباط فريضة ظالمة للإنسان، والتساكن أشبه بتعايش السجناء في زنزانةٍ واحدة.

الظروف الاقتصاديّة خارج الموضوع. الموضوع محصور في الرغبة، في الحبّ، في عدم السقوط من الجنّة.
وخارج إطار القانون والدين.
أتحدّث عن حياةٍ ومصيرها،
ومصائرها،
عن لعناتها ولماذا.
عن قَدَر لم يستطع تفاديه إلّا الأنذال عديمو الضمير أو النُسّاك المتبتّلون والقدّيسون. وذوو النعمة الذين عرفوا كيف يحايلون وحشيّة الزمن ويحوّلون زيجاتهم إلى صداقة راشدة.

■ ■ ■


لستُ من المخلوقين الخائبين. بالعكس. أنا مخلوقٌ متعطّشٌ للإعجاب، للدهشة والانسحار. أكاد أكون عاشقاً سَلَفاً. لهذا، ليس للنزعة الاستسلاميّة الانهزاميّة أيّ يد في هذا الكلام. هو مجرّد استفهام بعد فوات الأوان. والدافع هو الإشفاق على الإنسان وليس تلويعه ولا نكء جروحه. يجب أن نعيد النظر.
كما نعيد النظر _ أو هكذا ينبغي _ في أمر استباحة قتل الحيوانات وأكلها، وفي أمر أيّ عنفٍ كان، بل أيّ قسوةٍ كانت، بل أيّ تسلُّط كان. أمّا المساكنة و«المطابقة» بين الرجل والمرأة (وبين امرأةٍ وامرأة ورجلٍ ورجل) فالتساؤل حولهما يفرضه تاريخٌ سحيق من جلاجل الخيبة والضجر والقرف والكذب والخيانة والاستغلال والإذعان وأحياناً جرائم القتل، لا تقلّل من وطأته استثناءاتٌ هانئة أو حالاتُ أكثريّات غلّفت استسلامها بالرضى وآلامها عبر نَقْل الأحلام إلى الأولاد أو إلى شغفٍ من نوعٍ آخر.
ولكنْ حتّى الانجذابات إذا اعتبرنا أنّ الإكثار منها بل فَتْح مجالها بلا حدود هو مَهْرب بين المهارب، هل تمحو سؤالنا الأوّل؟ بعض الذين انحنوا على الموضوع يعتقدون ذلك. نحن نعتقد أنّه إدمانٌ تخديريّ وليس جواباً عن السؤال الرئيسي: هل المرأةُ والرجل خُلقا بعضهما لبعض أم التأسيس على ذلك كان غلطة بحقّهما لم يستقم فيها غير التناسل؟
هل ما نَحنُّ إليه في ساعات الوحشة هو امرأة (أو رجل) أم شيءٌ لا نعرف ما هو وكُتب علينا أن نظلّ نجهله؟
أهو بعضنا الآخر أم كلُّنا الآخر؟
هل ما نحبّه مجرّد صورة؟
هل الحبّ هو الحلم، لا شيء غير الحلم؟

■ ■ ■


للحقّ، لا يبدو أحد رابحاً في فضاء هذا القَدَر. إذا شرعنا في كتابة العرائض لن ننتهي. بدءاً بحكم العمل. «بعرق جبينك تأكل خبزك». بربّك لماذا؟ لمَن تذهب مواسم الأرض؟ ألم تستطع قوافل الصدّيقين والأنبياء أن تغسل تلك الخطيئة بعد؟ وأيّةُ خطيئةٍ هي هذه؟ ولماذا وضعت هذه الوردة الساحرة إذا كانت ستُقصَف بالأوجاع وما إن تعتاد ظروفها حتّى تنظر فترى صباها قد ضاع!؟ ولمَن تغنّي هذه العصافير الرائعة وما فوقها عقبان ونسور قاتلة وما تحتها بنادق الصيّادين؟ ولماذا تستميت الحيوانات في خدمة الإنسان وهو يحتقرها أو يسلخ جلدها؟ وكيف يكون في الإنسان روحٌ من الله وهو الأفتك بالإنسان من الزلازل والأوحش من البراكين والأوبئة؟
لا جواب. نحن هنا متروكون لطباعنا. تحت رحمة المصلحة والمزاج. في مهبّ الصدفة. الضعفاء لا يحميهم غير عمى ثقتهم بالخير. اجتماع اثنين بات من عجائب الدنيا. الوحدة هي العلاقة الأصدق. وأكثر أنواعها احتواءً على شيءٍ من إرث الماضي علاقةُ الإنترنت: الحميميّة الإلكترونيّة. تستطيع أن تكون مع العالم كلّه، وذات يوم مع سكان المجرّات غير الشمسيّة، وكلّ منكم بين أحضان ذاته.
في الواقع كانت تلك هي الحال دائماً: كلّ شخصٍ وحده مع شريكه. الصورة الخارجيّة وحدها آهلة ضاجّة بالحركة. منذ الأزل كلٌّ وحده. كنّا نستعين بالأساطير وصرنا نستعين بالآلة. كنّا نحلم وراء الشبابيك والمطر يطرطق على الزجاج وصرنا نحلم أمام شاشات الكومبيوتر.
لفرط ما الإنسان وحيد إذا مشى حافياً تسمع النجوم صوت خطاه كأنّه يبكي.

■ ■ ■


التطلُّع هو إلى مساعدة. إلى رؤيا في الصحراء. إلى ما يَخْلب، يُدوّخ. إلى نبعِ النبيذ.
لذلك اخترع الإنسان الفنّ واكتشف الجمال.
ليَسْكَر.
لذلك يصلّي.
لذلك يشرب السراب.
التطلُّع إلى مساعدة على الواقع.
هذا الأرنب الهارب في البراري لن تعينه سرعةُ القفز بل عنف الذهول. وما من قوّةٍ أشدّ إذهالاً ممّا يفعله دماغُ كائنٍ يجيب على ظلم القَدَر بخلق الجمال.
خلق روائع لا تموت مقابل خلق خالقيها الذين يموتون.



بيار صادق


غياب بيار صادق يطوي صفحة من تاريخ الرسم الكاريكاتوري في لبنان لا مثيل لها، حلّت فيها الفطرة اللبنانيّة محلّ تقليد الفطرة المصريّة (وهي لا تُقلَّد) وإطلالةُ جملةٍ كاريكاتوريّة جديدة نضرة محلّ النكتة القرويّة أو «القفشة» البلديّة كما دَرَّجَتْها «الدبّور» و«الصيّاد».
ريشة صادق الانطباعيّة وضعت خَتْمها على العهود. بل على الشخصيّات. اختصر الرؤساء والزعماء بملمحٍ رئيسيّ، وهذا شارل حلو سوف يخلد في الذاكرة بملابس الكاهن وذاك سليمان فرنجيّة في ملابس القرويّ.
أعطى بيار صادق جريدة «النهار» عصارةَ نبوغه، وأصبح قارئها يبدأ مطالعتها من الصفحة الأخيرة. كان الكاريكاتور عنوان الجوّ السياسي، والاستغراق في تفاصيل الرسم متعة على حدة.
عَكَس بيار صادق الوجدان الشعبي منذ انطلاقته، بعد «الصيّاد»، في «النهار» (أواخر الخمسينات أو مطالع الستّينات) حتّى عهد رفيق الحريري، حين قرّر أن «يحبّب الناس بالحريري» على حدّ قوله في التلفزيون. لكنّ صادق كان جيّاشاً وعنيفاً كالطبيعة، طقسه الأنسب عواصف المعارضة لا وداد الموالاة.
غالباً ما كان كاريكاتوره هو العدد كلّه.
حيثما كان، كان الهواء النقي. وحيثما حطّت ريشته فهناك الألمعيّة. لم يعرف أحد سرّ الكاريكاتور مثله. ولعلّها الغريزة الأعمق من مجرّد المعرفة. لم يوفّق أحد مثله إلى الجمع بين العفويّة والمهارة، والغزارة والرشاقة، والصحافة والحريّة.
راقِصُ الرسم، منوّر الأزمات، مُنفّس التضخّمات، كانت ريشته ضحكة الصباح.