العقل البارد يتيح، عادة، لصاحبه التنبّه من المخاطر، أو من الخطوات غير المحسوبة. الرئيس تمام سلام قرأ أن اللحظة التي حملته إلى موقع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة تناسب ليس ترشيحه فقط. وعندما حظي بإجماع أصوات النواب، زاد في آلية العمل نفسها، معتبراً أن الحاجة إلى دوره لا تقتصر فقط على الذين تولّوا رعاية الانقلاب على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وأن فريق 8 آذار، وخصوصاً حزب الله، ليس في موقع القادر على معارضة وجوده ودوره في السرايا الكبيرة.
في جوهر موقف سلام، وفي شكل التعبير عنه، إشارات تدلّ على تفكير غير واقعي ومتناقض مع الوقائع المحلية القائمة، وتصوّر غير دقيق للمهمة الموكلة إليه، داخلياً وخارجياً.
اللافت أن الرئيس البيروتي قرأ الترحيب به من قبل أبناء العاصمة على أنه ترشيح له كقائد بديل. لم ينتبه الرجل إلى أن البيارتة، على اختلاف طوائفهم، إنما يرحبون بمَن يقدر على أن يكون طرفاً غير مشجع للانقسام والتضارب الداخلي. ما يعني، ضمناً، أن المرحّبين يريدون من ابن صائب سلام تولّي المهمة الأكثر دقة في هذه المرحلة لبناء جسر وساطة وتواصل بين مكوّنات لبنان السياسية المنقسمة على نفسها، ولا يريدون منه أن يخوض معركة «هيبة رئاسة الحكومة»، لا سيما أن أي انزياح لم يحصل في القاعدة البيروتية للرئيس سعد الحريري ولتيار المستقبل. كما أن سلام نفسه لمس، بيده وعقله وعينيه، حجم الدور الجديد للسعودية في لبنان، وهو يعرف أنه دور طرف وليس دور وسيط نزيه، وأن السعودية التي رعت الانقلاب على حكومة الرئيس ميقاتي ليست مهتمة بحكومة شراكة وطنية، بل تريد حكومة تخدم استراتيجيتها في سوريا ولبنان، وفي المواجهة مع إيران.
هذا يعني، ببساطة، أن اختيار سلام لا يمكن فهمه على أنه لجوء إلى القطب البارز القادر على الفصل بين المتصارعين المحليين وبيده سيف الحل.
الأمر الآخر هو أن الوقائع الإقليمية المحيطة بلبنان تجعل سلام يحظى بدعم سعودي ــــ أميركي خارجياً وبدعم 14 آذار وكتلة «الوسطيين» داخلياً. ويفترض أن يكون سلام قد أدرك أن الانقلاب الذي جاء به نفّذه رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط، اللذان «احتالا» على الرئيس ميقاتي و«خدعاه»، وتخلّصا منه بعد نصف ساعة فقط. وهنا، يفترض بسلام أن يعرف أن سليمان وجنبلاط لم يدخلا في هذه المغامرة كرمى لعيون ابن المصيطبة، بل رغبة من الأول في الحصول على دعم لبناني ــــ إقليمي ــــ دولي لمشروع تمديد ولايته الرئاسية أو تجديدها، بينما كان على جنبلاط أن يعطي الإشارة العملانية على «توبته» وسعيه إلى «مراضاة» السعودية وأميركا.
من جانب آخر، توحي حركة الرئيس سلام أنه يتجاهل حقيقة ما فرضته السياسات الداخلية من وقائع، هي في حقيقة الأمر أكثر صلابة وقوة وفعالية من النص الوارد في اتفاق الطائف. وفي هذه الزاوية أخطأ سلام في أمرين:
ــــ الأول، تجاهله أن نقل صلاحيات السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً يعني أن لا مجال لأن يقرر رئيس الحكومة، وحده أو بالتشارك مع رئيس الجمهورية، سياسة الحكومة. وطالما أنه يحتاج إلى ثقة النواب وثقة الشارع، فعليه إبرام اتفاقات مع الكتل النيابية وممثلي الشارع عند تشكيل الحكومة، وهذا يعني ببساطة أن على سلام الذهاب مباشرة إلى القوى التي يهتم بوجودها داخل حكومته للتفاهم معها على العناوين والتفاصيل كافة.
ــــ الثاني، تجاهله أن المعطيات على الأرض تتيح له «دعماً نظرياً» من جانب السعودية والولايات المتحدة، وحتى من قبل فريق 14 آذار. لكن كل هذه القوى، بالإضافة إلى سليمان وجنبلاط، غير قادرة على تحويل الدعم النظري إلى دعم عملاني، وذلك بسبب طبيعة التوازن الذي يحكم لبنان. وهذا التوازن هو الذي فرض اتفاق الدوحة، وهو الذي حكم تشكيل حكومة فؤاد السنيورة، وهو الذي أطاح حكومة سعد الحريري، وهو نفسه الذي وفّر قيام حكومة نجيب ميقاتي، وكل محاولة لتجاهل هذا التوازن تعني فتح الباب أمام مواجهات حقيقية في الداخل، وهو أمر لا طاقة ولا قدرة لتمام سلام على تحمّله.
لكن الأهم، في هذه اللحظة، هو إدراك تمام سلام أن عليه أن يقلق إذا شعر بأن ميشال سليمان ووليد جنبلاط يلتصقان به، وها هي تجربة ميقاتي ماثلة للعيان، كما يجدر به الإقرار بأن لبنان يحتاج هذه الأيام إلى سلطة تمنع الانفجار الكبير، أو تحاول تأخيره، فربما تحصل تطورات من حولنا تحول دون وقوعه.
لكن كل محاولة لتجاوز هذه الوقائع والعيش في وهم القدرة على تمثيل مصالح الآخرين رغماً عنهم، إنما تعني دعوة المعترضين لأن يستعدّوا لتنفيذ انقلاب جديد. والتجربة الحيّة فيها نموذج 7 أيار، وفيها نموذج استقالة الثلث المعطّل من حكومة سعد الحريري.
غير ذلك كلام في كلام!