قبول الأميركي بمبادئ جنيف للتسوية في سوريا، يتضمن، في النهاية، ما ينسفها؛ أعني إقصاء الرئيس بشار الأسد ونخبته. وهذا هو الهدف الانقلابي نفسه الذي سعت إليه الحرب الفاشلة على سوريا. الآن، يُراد تنفيذه بـ «وسائل سلمية». والمسألة ليست في شخص الأسد، وإنما في نهجه. والنهج، في التحليل الأخير، بنية... هي المطلوب تفكيكها، ليس فقط من قبل واشنطن وتل أبيب وأنقرة والرياض والدوحة، بل، أيضاً، من قبل أبرز المعارضين الوطنيين، وأكثرهم عقلانية، هيثم منّاع الذي يعتبر أن تفكيك البنية الأمنية للنظام شرط مسبق لأي انتخابات ديموقراطية تجري في البلاد.
لكن الدولة السورية، سواء أكان ذلك جيداً أم سيئاً، تلحمها البنية الأمنية العسكرية المتداخلة. وهي بنية شغّالة على ثلاثة مستويات، أولها مستوى الأمن الإقليمي المتصل بمواجهة إسرائيل والهيمنة الأميركية ـــ الغربية، وثانيها مستوى الأمن الوطني المتصل بمواجهة تحديات عوامل التفكك والقوى الرجعية، وثالثها مستوى الأمن السياسي المتصل بمواجهة المعارضة المدنية وقمع الحريات السياسية. والأخير هو المستوى الذي ينبغي تفكيكه وشطبه من الحياة السورية بالتأكيد، لكن المساس بالمستويين الآخرين، لا يعني سوى تفكيك سوريا الدولة، وشطب فعاليتها الداخلية، ودورها الإقليمي.
لا توجد لدى قوى المعارضة ـــ باستثناء الشيوعيين والسوريين القوميين والتجمعات القريبة من تصوراتهم ـــ مقاربة مطابقة لاحتياجات الدولة السورية؛ فمن الناحية الواقعية، لا يمكن التمييز بين الإخوان المسلمين و«هيئة التنسيق» في اصرارهما معاً على استبعاد الأسد ـــ أي نهجه البنيوي ـــ من التسوية المفترضة، سواء من منطلقات طائفية أم من منطلقات ليبرالية.
يجادل المعارضون الإسلاميون والليبراليون بأن الأسد بلا شعبية. وهذه مبالغة بالطبع؛ ذلك أن هناك كتلة متعدية الطوائف، تؤيّد نظام الأسد، وتدافع عنه. وهذه الكتلة لا يوجد مَن يمثّلها الآن، سياسياً وسيكولوجياً، سوى الرئيس الذي سيكون استبعاده من المشهد، بالتالي، استبعاداً لهذه الكتلة من تركيبة النظام الجديد. ولا تنفع، هنا، الضمانات المكتوبة ولا النوايا الطيبة، في اقناع تلك الكتلة وطمأنتها إلى مستقبلها، وإنما الضمانة الوحيدة لتدامجها في نظام جديد ديموقراطي، هي الرئيس الأسد نفسه.
لكن ضرورة الرئيس الأسد في سوريا اليوم، لا تعتمد على هذا البعد وحده، وإنما، أيضاً، على حقيقة أن أغلبية الشعب السوري، تريده، ولا أقول تحبه أو تؤيده؛ فمعيار الشعبية، بالأساس، هو معيار ليبرالي، لا يعكس، بالضرورة، واقع الاحتياجات الفعلية للدولة. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا تحوّلت أوساط جماهيرية واسعة في سوريا والبلدان العربية، في مجرى التطورات المدمّرة للربيع الأميركي الخليجي الإخواني السلفي، من الموجة الثوروية إلى موجة وطنية واقعية. وباستثناء محترفي المعارضة وتجارها والميليشيات والعناصر المغرقة في الرجعية الطائفية، فإن الاتجاه العام بين السوريين ينصبّ على وقف العنف بأي ثمن، وإعادة البناء، وإطلاق الحياة المدنية من جديد. وهي أهداف واقعية ملحّة للغاية، تتجه أنظار الأغلبية، بصورة طبيعية، إلى الدولة القائمة، بوصفها الجهة الأقدر على تنفيذها وضمانها.
على المستوى السياسي، أظهرت قوى المعارضة السورية من الميول اللا وطنية والميليشياوية والقمعية والرجعية والإجرامية والليبرالية الساذجة والانقسامية، ما جعلها تفشل في بلورة بديل إيجابي مقنع للسوريين.
في العادة، تكون الثورات التقدمية ـــ أي التي تعبّر عن القوى الصاعدة في المجتمعات ـــ أكثر وطنية ووحدوية وإنسانية وديموقراطية وكفاءة، من الأنظمة القائمة؛ فماذا رأينا في سوريا؟ «ثورة» تتجاوز النظام في قمعيته، لكنها تنكص عنه، مسافات ضوئية، في كل المجالات الأخرى، ولا سيما المجال الوطني. وعلى مستوى الشخصيات القيادية التي عادة ما تفرزها الثورات التقدمية وتبزّ بها القيادات القديمة، فلا نجد في «الثورة» السورية شخصية قيادية واحدة تنافس أياً من قيادات الصف الثالث في النظام السوري!
لم يبق في «الثورة» السورية، سوى الثورة المضادة الرجعية، بينما يحثّ نظام الرئيس الأسد، الخطى نحو إحداث تغيير استراتيجي شامل في علاقات القوى الإقليمية، ستكون له مفاعيل لا يمكن التنبؤ بها على مستوى سوريا والمنطقة بأسرها؛ فمرحلة السلام الواقعي والحرب خارج الأسوار مع إسرائيل، أي مرحلة الممانعة، انتهت ـــ لصالح خيار المقاومة ـــ وانتهت، معها، مرحلة «التضامن العربي» القائم على المساومة مع الرجعية الخليجية والتفاهم مع الجار العثماني. التسوية الوحيدة الممكنة في سوريا اليوم، إذاً، هي التسوية مع نظام الرئيس الأسد، وفي سياق خياراته الاستراتيجية، وما عداها تسويات مع التحالف الأميركي الإسرائيلي التركي الرجعي، ليس لدى محور المقاومة، ما يضطره للخضوع لها. يبقى التعويل على التراجع الروسي الذي انتظرتموه سنتين، ويمكنكم انتظاره سنوات أخرى.