لم تخل ترتيبات اللقاء الذي عقد بعيداً عن الاعلام، في نهاية شهر أيار الماضي في برشلونة من تعقيدات على مستوى الشكل والمضمون. الجانب السوري اقترح أنّ يكون ممثله فيه رجل دين يحظى، في الوقت نفسه، باعتبار شبه رسمي، وبمكانة معنوية واسلامية ووطنية كبيرة. أما الجانب الأميركي فأرسل موفداً رفيع المستوى من وزارة الخارجية، ليس بالطبع السفير روبرت فورد الذي على ما يبدو تاه في صحراء إخفاقات حساباته الخاصة بتوحيد المعارضة السورية. وكان مقرراً أن يكون إلى جانب الموفد الأميركي، أثناء اللقاء، سفير الولايات المتحدة الأميركية في برشلونة ألان سلومون، لكن اللحطة الأخيرة تقرر استبعاده. وأبدى ممثل وزارة الخارجية الأميركية في الاجتماع مع الشخصية السورية الدينية، اقتناع واشنطن بأنّ المجموعات السلفية المتشددة التابعة للقاعدة اخترقت المعارضة السورية على نحو بنيوي، وأصبحت تشكّل خطراً كبيراً، وأنه من الأهمية بمكان اكمال العمل من أجل استئصالهم. ومن ناحيته، رجل الدين السوري، عرض لحقيقة الخطر على الاسلام المعتدل الذي تمثله «جبهة النصرة» وأخواتها المسيطرون حالياً على مساحات من الأرض السورية.
وقال إنّ الحرب الاعلامية نجحت في تغطية الحقائق السورية، وأنّ المسلمين السنة في سوريا هم بيئة الاسلام المعتدل والمتسامح، وأن غالبيتهم مع الرئيس بشار الأسد وضد المجموعات المتطرفة، التي تغزو سوريا اليوم من كل أصقاع العالم.
وكانت حاذقة فكرة ارسال دمشق للاجتماع رجل دين ذا مكانة كبيرة، فمقابل طرح باريس اسم رجل دين مثل أحمد معاذ الخطيب، وقيامها باقناع واشنطن بذكاء اختيارها، أسهمت خطوة إرسال القامة الدينية السورية للقاء برشلونة، بإظهار أنّ الغرب منفصل عن واقع الاجتماع الحقيقي لسوريا، وأن الكلام الذي يجب أن تسمعه واشنطن مغيّب وراء ستار كثيف من التضليل الإعلامي. وبالأساس ظهر خلال لقاء برشلونة أن واشنطن ليست بعيدة عن فكرتين؛ الأولى أهمية استمرار القتال ضد الإرهاب في سوريا حتى استئصاله، وثانيتهما أنّ الحل السياسي هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى إعادة الاستقرار لسوريا ولاقليمها، إضافة إلى التمسك بالشراكة مع روسيا في هذا المسعى. وفي اطار مستجدات الموقف الأميركي من الأزمة السورية، يظهر تطور هام، وهو ميل واضح وجديد للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى بناء خصوصية في مقاربة الأزمة السورية مع «البنتاغون» والقيادة الوسطى في الجيش الأميركي على حساب خلية الأزمة القائمة منذ بدء الأحداث السورية، والمتشكلة حصراً من مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية، أبرزهم السفير روبرت فورد.
وبحسب معلومات دبلوماسية حديثة جداً، فإنّ أوباما يتجه منذ فترة إلى جعل القرار الأميركي بخصوص الأزمة السورية منسقاً على نحو أعمق بين البيت الأبيض والبنتاغون، الذي انتدب لمهمة التنسيق هذه، شخصية منه، هو مساعد وزير الدفاع الأميركي للشؤون الأمنية ديريك شوليه، المعروف بعلاقته الشخصية الوثيقة مع أوباما. ويعني هذا التطور أنّ الرئيس الأميركي بدا يولي اعتباراً أكبر لرأي الجيش الأميركي ووزارة الدفاع خلال صياغة قرار إدارته بشأن الحدث السوري. وترسم معلومات دبلوماسية التوزيعة الجديدة التي باتت تؤثر فعلياً على قرار البيت الأبيض بشأن سوريا على النحو التالي:
ـــ وزير الخارجية جون كيري المهتم بتطبيقات نظريته الأساسية المعروفة اصطلاحاً بـ«شراكة كيري - لافروف في انتاج الحل السياسي عبر مؤتمر جنيف ٢».
ــ روبرت فورد كمساعد تقني لكيري، حول شؤون المعارضة السورية. ويلاحظ هنا أن فورد تراجعت أهميته في هذا الملف منذ ذهاب هيلاري كلينتون من منصب وزيرة الخارجية. وكانت الأخيرة تعتمد على فورد في تنسيق عمليات تصليب المعارضة في الميدان، وفق نظرية اسقاط الرئيس بشار الأسد بالقوة أو أقله اضعافه حتى يصبح ناضجاً للحل الانتقالي من دونه. ومشهود في هذا المجال أن فورد هو صاحب نظرية «إنّ الشيطان الذي لا نعرفه (أي المجموعات السلفية المسلحة) هو أحسن من الشيطان الذي نعرفه (أي الأسد)». وأيضاً نظرية «يجب أن نجعل الأسد يخاف من أن تدخل جبهة النصرة إلى غرفة نومه، وبذلك نستطيع تطويعه».
ــ الرجل الذي يصعد نجمه من وراء الكواليس في قرار أوباما حول سوريا، هو ديريك شوليه، بوصفه موضع ثقة الرئيس من جهة وممثلاً لوجهة نظر القيادة الوسطى في الجيش الأميركي بالتشارك مع البنتاغون، من جهة ثانية. ويبدو أنّ وجهة نظر الجيش صار لها الاعتبار الأهم في مقاربة هذه المرحلة على الأقل من مسار الأزمة السورية التي تشهد اختراقاً بنيوياً للقاعدة داخل المعارضة السورية، والتي تحفل أيضاً باحتمالات انتقال خطرها انطلاقاً من سوريا إلى دول الجوار، وبالأخص لبنان والأردن. وانطلاقاً من هذه الاعتبارات الخاصة بحجم الدور المستجد للجيش الأميركي داخل قرار أوباما في هذه المرحلة من الأزمة السورية وتداعياتها، فانه يتم تسجيل مواقف مغايرة ليس فقط على مستوى ضرورة مواجهة الإرهاب في سوريا بحسم، بل أيضاً في لبنان، ولا سيما في طرابلس التي تواكب واشنطن عبر رسائل من البيت الأبيض لبيروت ومباشرة من قيادة الجيش الأميركي لقائد الجيش العماد جان قهوجي، عملية حسم الفلتان الأمني الجاري هناك.
وكشفت مصادر دبلوماسية لـ«الأخبار» معطيات عن جوهر التغير المستجد على مستوى بنية التفكير بالأزمة السورية، في واشنطن، وذلك انطلاقاً من حديث خاص منسوب لديريك شوليه خلال الأسبوع الماضي. ويقول شوليه إنّ «السياسة الأميركية العميقة منذ بدء الأزمة السورية كانت تفكر بأمرين اثنين: انتقال السلطة مقابل إدارة النتائج بعد هذا الانتقال (transition vs/ management)».
ويضيف: من الممكن، وما زال، التخلص من نظام الرئيس بشار الأسد حيث لدينا القدرة على ذلك، نحن
وحلفاؤنا. ولكن ماذا بعد هذا الأمر؟
ويسأل: كيف يمكن إدارة سوريا المنهكة والمجزأة مذهبياً وطائفياً والمدمرة والمفلسة؟ ليجيب: هذا الأمر مكلف للغاية على كل الصعد.
ويتابع: «نحن لا نريد إرسال جيش أميركي إلى سوريا»، مضيفاً «أساساً هذا ما نصحنا به حلفاؤنا في المنطقة، قالوا لنا لا ترسلوا جيشاً إلى سوريا، فهذا أفضل لنا جميعاً؛ لنا ولكم». ويؤكد شوليه أنّ الإدارة الأميركية جادة تماماً في إيجاد حل مع روسيا في سوريا عبر «جنيف ٢»، وروسيا جدية أيضاً ذلك. «إن مصلحتها تقضي بايجاد حل لمعضلة قد لا تترك لها شيئاً في سوريا لتستفيد منه، بل إنها تزيد من خصومها خاصة في العالم السني الذي يحيد بها». ويكشف شوليه، أن «أمام «جنيف ٢» مشاكل صعبة وقد لا يحقق النتائج المنشودة منه، ونحن وروسيا نواجه مشاكل بخصوص أنه كيف يمكننا وضع كل هذه الأضداد حول طاولة حوار واحدة، خاصة بعد سقوط هذا العدد الهائل من الضحايا. لكن أميركا ستستمر في السعي لأنها قلقة من أن تستحيل الأزمة السورية إلى أزمة دولية حادة تهدد السلم الاقليمي وأبعد منه». وشدد على أن «اميركا تجهد الآن لمنع انتقال النار السورية إلى الجوار، وضبط إيقاعات الإرهاب وضربه».