رُشق الصرح البطريركي في بكركي كثيراً عندما كان الكاردينال نصر الله صفير هو سيده. سيطرت القطيعة على علاقته مع قسم من المسيحيين بسبب مواقفه السياسية. سمح هؤلاء لأنفسهم بتوجيه أشد الانتقادات واستخدام عبارات نابية بحق صفير بحجة اصطفافه مع فريق ضد آخر. وفي وقت كانت فيه الحملات تشن عليه، كان هواء الشاشات المعارضة مفتوحاً أمام آباء ومطارنة لا يتفقون معه سياسياً. أصبح هذا الفريق اليوم يدعّم شرعيته المسيحية عبر تصوير مطران وهو يخوّن القوات اللبنانية، شاهراً حبه في الوقت نفسه للنائب ميشال عون. هي ليست الحالة الوحيدة التي يزج فيها المطارنة الموارنة أنفسهم في المعارك السياسية، في وقت لا تنفك فيه الكنيسة تتمنى على الجميع تحييدها عن صراعاتهم الداخلية. فقبل راعي أبرشية صيدا ودير القمر المطران إلياس نصار، دخل النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم على خط التصريحات السياسية، أشهرها كان عندما قال في حديث تلفزيوني إنه «كان ينبغي للقوات العودة إلى بكركي بعد انتهاء المهل، ولا سيما أنها كانت تنتظر معرفة كل جديد في المفاوضات» بشأن قانون الانتخابات، فيما كان الكاردينال بشارة الراعي قد صرح من مطار بيروت لدى عودته من رحلته إلى أميركا اللاتينية بأنه لا يحمّل أي طرف مسيحي مسؤولية ما آل إليه الأمر في قانون الانتخاب، رافضاً منطق الاتهام والتخوين.
يشبه الوضع في بكركي اليوم فرقة الأوركسترا التي تركها المايسترو، فأخذ كل من أعضائها يعزف اللحن الذي يناسبه، من دون الأخذ في الاعتبار أذن المستمع الذي لن يكون من حل أمامه في ظل هذا الضياع إلا أن يغادر الصالة من دون العودة إلى سماع الفرقة من جديد. يقول أحد المواكبين الدائمين لتحركات بكركي السياسية إن هذا الانقسام ليس بجديد، «يعود هذا الأمر إلى ما قبل الكاردينال صفير. فدائماً هناك مطارنة لا يلتقون مع خط البطريرك السياسي». لم يكن هذا الأمر ظاهراً إلى العيان في ما مضى، «والسبب أن الراعي في حالة سفر دائمة، على العكس من صفير. هذا الأمر يولّد فراغاً على المستوى المحلي، ما دفع بعض المطارنة إلى ملء الفراغ بتصريحاتهم». لا يقوم المطارنة بهذا الأمر مرغمين، «هم يريدون أن يؤدوا هذا الدور، ويرغبون في أن يكون لهم يد في النقاش السياسي»، يقول المصدر. لا يعني ذلك وجود جبهتين في بكركي، مع الراعي ضده، حتى وإن تصادم بعضهم مع بعض كما حصل بين مظلوم وراعي أبرشية بيروت المطران بولس مطر بشأن قانون الانتخابات. الأول كان واضحاً في تبنيه لاقتراح اللقاء الأرثوذكسي، فيما فُهِم من كلام الثاني أنه منفتح على اقتراح قانون مختلط. «التباين يبقى ضمن الفريق الواحد». صحيح أن بكركي هي الصرح، إلا أنها لم تتحول بعد إلى مؤسسة منظمة. فلا وجود مثلاً لدوائر رسمية يصدر عنها موقف واضح وصريح، أو تنظيم للعلاقة مع الصحافيين، الأمر الذي يدفع كل مؤسسة إعلامية الى الاستنجاد بمطران قريب من سياستها التحريرية، فتبدأ عندئذ عمليات الكر والفر بين بكركي والسياسيين بغية التوضيح والرد، وبين مرحب ومعارض.
ترتبط مواقف المطارنة المتناقضة، بمواقف سيدهم التي تتبدل باختلاف الظرف السياسي. يبدو جلياً الفرق بين ولاية صفير والراعي. ففي عهد الأول لم يكن يضطر إلى توضيح موقف واحد، كذلك فإنه لم يكن يساء فهمه. وبغض النظر عن انحيازه إلى فريق دون آخر، بقي موقف بكركي واضحاً. منذ أن انتخب بطريركاً، بدأ الراعي إطلاق المواقف المرفقة دائماً بعبارة «ولكن». ضربة ساخنة وأخرى باردة. هكذا لا يزعل أحد من «سيد بكركي». وبحسب سياسيين موارنة، يُسمِع الراعي كل طرف ما تهوى أذنه. اتخذ البطريرك أخيراً ثلاثة مواقف لها علاقة بالانتخابات النيابية لم يلتزمها، أو لم يكن من إمكانية للسير بها، أضعفت موقع بكركي، جاعلةً إياها هدفاً لنيران عدة. طلب الراعي من الوزير مروان شربل عدم قبول طلبات الترشح للانتخابات وفقاً لقانون الستين، علماً بأن شربل ليس موظفاً لدى بكركي، فضلاً عن أن مرجعيته هي القانون (أو هكذا يجب)، لا الطائفة. فكيف يقدم الراعي على خطوة كهذه معروفة نتيجتها مسبقاً؟ من يعرف الراعي يصفه بالمتحمس الذي لا يحسب خطواته جيداً. لكن أحد مصادر بكركي يبرر الأمر «بأنها كانت طريقة لتأكيد ضرورة إقرار قانون جديد، وإعطاء إشارة للمرشحين كي لا يقدموا أوراقهم». الموقف الثاني الذي تراجعت عنه بكركي هو اقتراح الأرثوذكسي. يقول المصدر إن «الهدف منه كان تشكيل أرضية مسيحية، وخلق جو بأن الطائفة لم تعد ترضى بالتهميش. لكن عندما لم يتجاوب فريق من المسلمين مع هذا الطرح تراجعت البطريركية خشية الفرز الطائفي». أصر الراعي على أن يشارك في بلورة قانون انتخابي جديد، إلا أن ارتباطاته الخارجية منعته من متابعة ذلك، ما صعّب المهمة. الموضوع الأخير الذي لم تقدر بكركي على التزامه هو التمديد للمجلس النيابي. لم تقدر، وهي التي تتفيأ بظلها كل الأحزاب المسيحية، أن تمون عليهم في عدم التصويت على التمديد.
يرى الخبير في الشؤون الكنسية أنطوان سعد، أن الراعي «يحب إرضاء الجميع وجمعهم حول البطريركية». لا يعتقد أن خروج البعض عن إرشاداتها يضعف موقعها، «بكركي قوية، وما إصرار البعض على السير في التمديد لفترة إلا لمحاولة إصلاح الوضع مع الكنيسة، كي لا تدفع ثمن معاندتها».
من جهته، ينفي رئيس أساقفة بيروت للموارنة بولس مطر، أي خلاف بين المطارنة. يقول إن «المطارنة ليسوا ملائكة، لديهم ميولهم السياسية، لكن يجب أن يبقى كلٌّ منهم راعياً للجميع». يرفض أن يكون سبب زيادة نسبة التصريحات التي يطلقها المطارنة سفر الراعي الدائم، «فهو على تنسيق دائم معنا».
استغل بعض المطارنة سفر «راعيهم» ليزايدوا على أنفسهم بمن يتولى منصب نجم الشاشات. بدا واضحاً الاختلاف في ما بينهم، إلا أن ذلك كله لا يعوّل عليه. يبقى الموقف الرسمي الوحيد الذي يبنى عليه، هو البيان الذي يصدر بعد اجتماع المطارنة الموارنة، وتحديداً عندما يكون الراعي حاضراً بينهم. لكن هذا الموقف، وغيره من مواقف البطريرك المعلنة، لم تجد طريقها للتطبيق.