وجّه الرئيس السوري بشّار الأسد أمس رسالة مباشرة إلى الضغوط العربية والدولية التي يتعرّض لها في مواجهته المزدوجة مع المعارضة السياسية السورية ومع الإخوان المسلمين. لأسباب معلنة هي الدواعي الصحية وانقطاعه عن عمله بسبب مرضه، أقال الأسد وزير الدفاع، العلوي، العماد علي حبيب، وأحلّ محله رئيس الأركان العماد داوود راجحة، المسيحي، وزيراً للدفاع. وعيّن أيضاً خلفاً لراجحة في رئاسة الأركان.
مغزى الرسالة، في توقيت بالغ التعقيد والحساسية يجبهه الرئيس السوري بعد سلسلة مواقف تنديد بالعنف أطلقها في الساعات الأخيرة مجلس التعاون الخليجي والسعودية والجامعة العربية والأزهر وترافقت مع إجراءات للكويت والبحرين، أن الأسد لا يزال يثق بقدرة جيشه على المحافظة على نظامه وتماسك المؤسسة العسكرية، وهو على أبواب انقضاء الشهر الخامس من الاضطرابات الدموية في سوريا.
ولا يعكس التعيين المفاجئ لوزير جديد للدفاع إلا مظهراً إضافياً من تجاهل الأسد الضغوط الدولية، ثم الضغوط العربية التي ظهرت فجأة وتلاحقت تباعاً في ساعات قليلة، وإصراره على المضي في المواجهة العسكرية. لمست هذا المنحى شخصيات لبنانية رسمية تسنّى لها أمس الاتصال بمسؤولين سوريين لاستكشاف حيثيات إقالة الأسد حبيب فجأة، قبل أن تكثر التكنهات والشائعات، في تدبير يمثل صلة وصل قوية بين الرئيس السوري والجيش. وفي ضوء ما سمعته، لاحظت الشخصيات اللبنانية الرسمية من خلال محدثيها إيلاء الأسد أهمية قصوى لخطة إعادة تأكيد سيطرته على النظام عبر العمليات العسكرية المتنقلة التي تضع الخوض في أي حوار سياسي على الإصلاح جانباً. والواضح أنه والمعارضة السياسية لا يجدان في حمأة سخونة التطورات الوقت ملائماً لفرض تنازلات أحدهما على الآخر.
ويشير بعض ما أوحى به المحدّثون السوريون إلى المعطيات الآتية:
1 ــــ بعد صمت رافق الأشهر الخمسة المنصرمة من الاضطرابات، لم يلتحق مجلس التعاون الخليجي والسعودية والكويت والأزهر والجامعة العربية بالضغوط الأوروبية والأميركية على نظام الأسد، إلا بعدما أنهى ــــ أو يكاد ــــ سيطرته الكاملة على حماه. ورغم أن مدناً ومناطق كدرعا وحمص وبانياس وتلكلخ وجسر الشغور واجهت صدامات مسلحة مشابهة لما حصل في حماه، إلا أن الإرث الدموي القديم الذي لم تمحه السنون الـ29 بين نظام الأسد والإخوان المسلمين، وضع حماه في واجهة الأسباب التي حملت الدول العربية هذه على الخروج من صمتها.
ومع أن بيان العاهل السعودي الملك عبد الله، منتصف ليل الأحد، لم يحمل عبارات منفّرة للأسد شبيهة بالمواقف التركية والأوروبية والأميركية، إلا أن توقيت التحذير وتلميحه إلى أحد خيارين هما الحكمة أو الفوضى والضياع، بعد استعادة النظام حماه، فسّره المسؤولون السوريون بأنه ردّ فعل سلبي على انهيار مشروع إسقاط النظام من الداخل، من خلال النموذج الذي كانت تمثله حماه كإرث سياسي وعقائدي مناقض لنظام الأسد يجسّده فيها الإخوان المسلمون. وذلك رغم افتقار المدينة إلى إحدى أبرز الميزات التي تمتعت بها درعا وجسر الشغور ودير الزور وتلكلخ، وهي كونها مناطق حدودية يستمد المعارضون والمسلحون قوتهم من الدول المتاخمة لها. قبل إسقاطها، استقطبت حماه طوال أسبوعين أكثر من 150 ألف متظاهر، فضلاً عن مسلحي الإخوان المسلمين، لتأكيد العصيان على النظام.
ويقول المسؤولون السوريون إنهم لم يلجأوا إلى الحسم العسكري في حماه إلا بعد تفاوض شاق وصعب استمر ستة أسابيع، عمل الرئيس السوري خلالها على إقالة محافظ المدينة ورئيس فرع الاستخبارات الجوية ورئيس فرع الاستخبارات العسكرية، واستدعى مشايخها وتجارها الكبار ووجهاءها وممثّلي عائلاتها سعياً إلى إعادة النظام إليها بالحسنى وتجنّب إدخال الجيش إليها، وتسليم مطلقي النار على الجيش وقوات حفظ الأمن، فلم يستجيبوا، بينما سيطر مسلحو الإخوان المسلمين عليها وأخرجوا الدولة تماماً منها، وسدّوا مداخلها. عندئذ قرّر النظام اللجوء إلى الخيار الذي حتّمه الحؤول دون جعل درعا وجسر الشغور وتلكلخ شرائط أمنية مستقلة عنه.
2 ــــ لم يصدر أي موقف رسمي سوري رداً على بيان العاهل السعودي، خلافاً لردّ الفعل الفوري والحاد على تركيا الذي أعلنته المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس السوري بثينة شعبان. وأوحى التزام دمشق، حتى الآن على الأقل، الصمت باستيعاب تردّدات موقف الرياض.
3 ــــ لم يرسل الأسد إلى اليوم أي إشارة ضعف توحي بانهيار نظامه. وهو لا يكتفي بتجاهل الضغوط الدولية عليه، بل يقابلها بردود فعل عنيفة عليها ترمي إلى إظهار تماسك النظام في الشهر الخامس من اضطرابات تعمّ مدناً سورية عدة تفشّى السلاح فيها. لا يزال مطمئناً إلى وحدة الجيش وقيادته وأجهزة الاستخبارات التي يرأسها والمؤسسات الحكومية والمؤسسة الديبلوماسية. وخلافاً لما شهدته اضطرابات اليمن وليبيا التي تمرّد فيها سفراء على نظامهم وانضموا إلى المعارضين، لا يزال السفراء السوريون يأتمرون بوزارة الخارجية على وفرة أسباب الإغراء التي تتيح للسفير التخلّي عن إدارته والبقاء خارج بلاده.
بل تبدو إحدى الصور المعبّرة عن تماسك النظام، الموقف الذي غالباً ما اتخذته المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس من العلاقات السورية ــــ التركية في الأسابيع الأولى من الاضطرابات، عندما راحت أنقرة توجّه انتقادات حادة إلى الأسد وتحضّه على استعجال الإصلاحات والتغيير أو الرحيل، وتحذره من قمع المدنيين واستخدام العنف. كان موقف شعبان داخل القيادة السورية حيال تركيا ضرورة التمسّك بالعلاقات البنّاءة معها، والنظر إلى تلك المواقف على أنها نصائح أكثر منها تهديدات، ودعوتها إلى عدم قطع الحوار معها وتجنّب تعريض سوريا للعزلة، وكذلك الأخذ في الاعتبار الحدود والمصالح المشتركة. كانت ترى في الإنذارات التركية دافعاً لتقبّل نصائح في مواجهة أصحاب الرؤوس الحامية داخل النظام السوري، المتشبّثين بمناصبهم. بيد أنها هي التي تولّت الإعلان عن ردّ فعل سلبي حيال أنقرة، بقولها قبل يومين إن الرسائل التركية الحازمة ستقابل برسائل سورية أكثر حزماً.