بدأ مسلسل باخرة «فاطمة غول» في لبنان بتاريخ 17 أيار 2013. الحلقات الأولى التي سبقت هذا التاريخ كانت عبارة عن مشاهد تعريفية بأبطال المسلسل: آل كارادينيز الأتراك، وهم أصحاب الشركة التي تدير الباخرة وتشغّلها، الدولة اللبنانية ممثلة بوزارة الطاقة نيابة عن مؤسسة كهرباء لبنان المتعاقدة مع «كارادينيز» لتوليد 270 ميغاوات مقابل 393 مليون دولار (من دون TVA)، والشركاء في السياسة الذين تباروا في الكلام على فساد صفقة «الباخرة».
في التاريخ المذكور، «كشّرت» الشركة عن أنيابها وأبلغت مؤسسة كهرباء لبنان أن محرّكات «فاطمة غول» تعطلت بسبب نوعية الفيول المستخدم، وصولاً إلى التوقف النهائي بعد نحو أسبوع.


تجاهل التحذيرات

توقفت الباخرة التركية «فاطمة غول» عن إنتاج الكهرباء لمدّة 47 يوماً بسبب استعمال فيول بمواصفات لا تناسب محرّكات مولداتها. هذه هي القضية الأساسية التي كان التفتيش المركزي يحقق فيها طوال الشهرين الماضيين. شرارة هذه القضية أطلقها رئيس الجمهورية ميشال سليمان باندفاع سياسي لـ«التنقير» على وزير التيار الوطني الحرّ جبران باسيل. لجنة المفتشين في التفتيش المركزي درست العقد، وتبين لها وجود بنود تمنح الشركة التركية مكاسب بملايين الدولارات.
اللجنة التابعة للتفتيش المركزي حسمت مسؤولية المتعهد التركي عن تعطّل المحرّكات؛ لأنه وافق على مواصفات الفيول المعتمدة حصراً لإنتاج الكهرباء على باخرة «فاطمة غول» بموجب الملحق (ب)، وهذه الموافقة جاءت بعدما أتمّ تجارب الفيول المنصوص عليه في الملحق المذكور، متجاهلاً التحذيرات التي أبلغته بها شركة مختبرات «Viswa» العالمية بشأن ما تتضمنه مواصفات الفيول من شوائب ورواسب معدنية تؤدي إلى تعطيل المولّدات.
أبرز النقاط «لؤماً» في تقرير المفتشين هي تلميحهم إلى رابط قوي بين نيات المتعهد المبيّتة ورسالة قنصل لبنان من باكستان التي تلفت إلى عدم صدقية الشركة التركية وعدم التزامها بتنفيذ تعهداتها. فقد أصرّ فريق التفتيش على أنه لم يطّلع على نتائج التدقيق بشأن الرسالة، فيما يشي سلوك «كارادينيز» بنياتها؛ إذ لم تبلغ عن تعطّل المحرّك إلا في يوم 17 أيار التالي ليوم تحرير «كفالة حسن تنفيذ الالتزام» بقيمة 20 مليون دولار. لكن مصادر في وزارة الطاقة أكّدت أن رسالة القنصل وصلت إلى لبنان بعد توقيع العقد مع الشركة بناءً على قرار مجلس الوزراء، وأن مبلغ الـ 20 مليون دولار لم يُدفَع للشركة بعد.


خزّانات غير كافية

لم تقتصر أضرار العطل على توقف إنتاج الكهرباء لمدّة 45 يوماً وما سبّبه من تقنين إضافي في التغذية بالتيار الكهربائي؛ فقد كشفت أضراره غير المباشرة عن شوائب في بنود العقد تعطي الشركة التركية أرجحية مالية، إذ كشفت التحقيقات عن أن الباخرة ليس لديها خزانات مطابقة للمواصفات بحسب مضمون العقد الذي يفرض عليها وجود خزانات تستوعب 6 آلاف طن متري من الفيول. وبالتالي، عندما اعتمد نوع جديد من الفيول بمواصفات تلائم محركات الباخرة التركية، استورد لبنان كميات من هذا الفيول من دون أن تكون لديه خزانات ملائمة، لكن المفاجأة أن الباخرة لم تستوعب الكمية المستوردة، فاضطرت مؤسسة كهرباء لبنان إلى أن تسحب الفيول من البواخر على مدى 12 يوماً بكلفة 18 ألف دولار عن كل يوم تأخير للباخرة، أي بكلفة إجمالية تبلغ 216 ألف دولار... وهذا الأمر يعني أن المشكلة ستكون أكبر خلال فصل الشتاء حين يكون صعباً على البواخر الرسوّ لفترات طويلة ولا يمكن خزانات الدولة اللبنانية استيعاب الكميات المستوردة من الفيول.
وإضافة إلى ما تقدم، لاحظ فريق التفتيش وجود «توربين بخاري» على متن الباخرة ليس ملحوظاً ضمن العقد. فما الهدف من وجوده؟ الإجابة تكمن في أحد البنود بعنوان «مكافأة المتعهد». هذا البند ينص على مكافأة للمتعهد مقابل خفض استهلاك الفيول الذي يدفع الطرف اللبناني ثمنه. هذه المعادلة البسيطة مع التوربين البخاري تمنح المتعهد أكثر من 100 مليون دولار. كيف؟ التوربين البخاري يمكنه خفض استهلاك الفيول بمعدل 29 غراماً في كل كيلوواط ساعة. في المقابل، تؤكّد مصادر لبنانية معنية بالملف أن هذا التوربين لم يتم تشغيله حتى اليوم. كذلك يسمح العقد للمتعهد بأن يزداد استهلاك الفيول بهامش 2.5%. وفي الواقع، إن هدف هذا البند هو التزام المتعهد بإنتاج طاقة «بيئية»، لكن لجنة التفتيش تؤكد أن معظم طلبات وزارة البيئة لم تنفذ ولم تتقيد الشركة بتسليمها دراسة الأثر البيئي خلال 47 يوماً من بدء عملها، فضلاً عن أنها «لم تتقيد بالشروط البيئية المنصوص عليها في العقد».

فروقات استهلاك الوقود

هذا المقدار من «إكساب» المتعهد التركي على حساب اللبنانيين لم يكن كافياً؛ فهناك وسائل أخرى للكسب كانت مغفلة تماماً في العلاقة التعاقدية بين الطرفين. هناك طريقة لقياس تدفق المحروقات بين خزانات الباخرة وما يُستهلك فعلياً. هذه الطريقة أكّدت للمفتشين أن فروقات استهلاك الفيول تقدّر بنحو 430 متراً مكعباً لمصلحة الشركة التركية، وهو أمر يزيد منفعتها من معادلة خفض الاستهلاك.
وتوقف المفتشون في تقريرهم عند كون العقد يتضمن نصاً يجيز دفع سلفة بقيمة 22% قبل حصول الشركة على الكفالة النهائية، وهناك صعوبة في مصادرة الكفالة أو أي جزء منها بسبب خضوعها لإرادة المتعهد، فضلاً عن أنها صادرة عن مصرف تركي، وبالتالي ستخضع للقانون التركي. وبحسب مصادر من الطرف اللبناني، كانت الشركة قد طالبت خلال المفاوضات بأن تكون السلفة بقيمة 25 في المئة من إجمالي قيمة العقد، لكن مجلس الوزراء أصر على خفض هذه النسبة إلى 22 في المئة. وهذه السلفة هي التي دُفِعَت للشركة كدفعة أولى من أجل المباشرة ببناء الباخرة.
وبحسب العقد، أُعطيت الشركة التركية امتيازات إضافية من خلال منحها حق سحب الفواتير من الاعتمادات المفتوحة من مصرف لبنان، ما يلغي حق الطرف اللبناني في الاعتراض.