نواكشوط | في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط أشكال عديدة من الرق والعبودية، بالرغم من الجهود التي تبذلها السلطات لاجتثاث هذه الظاهرة المشحونة بالاغتصاب والضرب وتقييد الحرية وانتشار أطفال غير معروفي الوالد. واقع دفع بعض المعنيين إلى إصدار وثيقة أواخر نيسان الماضي باسم «الميثاق حول الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأرقاء موريتانيا السابقين (الحراطين)».في المقر المركزي لمنظمة «نجدة العبيد» يعمل الرجل الموريتاني معط الله، فرّاشاً. هو في عقده الثالث، ومع ذلك توحي ملامحه بأنه طاعن في السن.
لا يعرف معط الله تاريخ ميلاده، فهو كان واحداً من عشرات الآلاف من الأرقاء الذين لا يزال بعضهم يعاني من الاستعباد. لكن عبارة واحدة تصدر عنه تكفي لشرح عمق الجرح، يقول: «أن تُغتصب أمك وشقيقاتك أمامك، وأن تُضرب وتُقيّد لأبسط الأسباب، أمور لا يمكن السكوت عنها».
وفي حديث إلى «الأخبار»، قال معط الله الذي تحرر من العبودية قبل سنوات قليلة إنه تحرر بالصدفة، مضيفاً «كنت أرعى الأغنام في شمال البلاد المتاخم للجزائر. في أحد الايام استوقفتني دورية عسكرية تبحث عن البئر التي نسقي منها المواشي، فقلت لهم إنها تبعد كثيراً، وإنني لا يمكنني أن أدلهم عليها بسبب أسيادي، فما كان منهم إلا أن وعدوني بتحريري من الاسترقاق. أقمت معهم في ثكنة، وبعد يومين وصل ثلاثة من أسيادي وزعموا أنني ابنهم، فهدّدهم العسكريون بالقول: إن عدتم فلن يُعرَف لكم مصير. وبعد أيام انتشر الخبر عني واتصلت بي نجدة العبيد».
هروب معط الله من «أسياده» ساعد في تحرير شقيقاته اللاتي تعيل إحداهن عشرة من الأبناء لا يُعرف لهم أب شرعي. ووصلت شقيقات الشاب المعتَق الى نواكشوط الشهر الماضي بجهود «نجدة العبيد» والسلطات.
يروي معط الله لـ«الأخبار» كيف تمكّن من تحرير شقيقاته وأولادهن، ويثني هذا المسكين على المنظمة الحقوقية والسلطات التي قال إنها قدمت له قوة عسكرية من سبع سيارات فيها عشرات من العسكريين وقامت باعتقال الأسياد الذين قال إنهم يقبعون في السجن في مدينة ازويرات شمال البلاد.

المهانة والاغتصاب

المعاناة التي تحرر منها معط الله قبل سنوات قليلة قاستها أخته اشويده التي لم تتحرر من الاستعباد الا الشهر الماضي. ففي بيت قصديري لا يزيد طوله على ستة أمتار وعرضه على أربعة، تعيش اشويده مع أبنائها العشرة وسط وضع مزري للغاية، وتقتات اليوم على مساعدات إنسانية يقدمها فاعلو الخير.
أشويده (40 عاماً) التي لا تعرف سوى رعي الجمال والماعز منذ نعومة أظافرها تقول إن من أكره ما عانته عدا الاغتصاب هو المهانة والمذلة اللتين ظلت عرضة لهما آناء الليل وأطراف النهار.
تضيف «لا أنسى ولن أنسى تلك المعاملات الدنيئة التي عاملني بها أسيادي لأسباب تافهة. ما إن يتوه واحد من الجمال في منطقة صحراوية قاحلة حتى أقضي الليالي المتواصلة في البحث، ولا يمكنني أن أعود من دون الجمل في فيفاء ملأى بالوحوش. أما الضرب والتنكيل بي فلا تسل، هو عذاب متواصل ما أنزل الله به من سلطان».
رئيس منظمة «نجدة العبيد» بوبكر ولد مسعود، هو أقدم الأرقاء السابقين المناهضين للرق، يقول إن «من أبرز ما تحقق اليوم في مناهضة الرق في موريتانيا هو أن الأسياد لم يعد بإمكانهم الجهر بالظاهرة».
يشدد ولد مسعود في حديثه إلى «الأخبار» على أن موريتانيا ستربح الكثير في حالة القضاء على الظاهرة، ومن أول ما سيتحقق الوحدة الوطنية التي يحول انتشار الظاهرة وترسباتها دون تحقيقها. «التهميش الذي يعانيه الأرقاء السابقون لا يُحتمل».
عن وضع الأرقاء السابقين في الوظائف الرسمية يوضح ولد مسعود أنه «من أصل 223 قاضياً يوجد سبعة فقط من العرب السُمر أو الأرقاء السابقين، من بينهم قاضي تحقيق واحد. ولا يوجد أي من الأرقاء السابقين في أي وظيفة قضائية أو عدلية أخرى.. هل هذه هي العدالة؟».
اليساري ولد مسعود مهندس معماري تخرّج في الاتحاد السوفياتي السابق مطلع السبعينيات. كان أول مناهض للرق يُعتقل في موريتانيا بسبب نشاطه.
أُدخِل السجن عدة مرات بسبب مناهضته للظاهرة، وظلت السلطات تتهمه بتشويه صورة البلد. يقول ولد مسعود إنه بدأ في سن مبكرة يعاني التفرقة، ففي عام 1951رفض «أسياده» في بداية الأمر دخوله إلى المدرسة، وبعد جهد جهيد تمكن من التسجيل.
وطبع الشجار بداية حياة ولد مسعود بسبب الغبن ونعته بـ«العبد»، ما ولّد لديه انطباعاً سيّئاً عن مجتمع يشكل اللون المعيار الأساسي للمكانة فيه.
ويتذكر ولد مسعود أنه كاد يفقد دراسته الجامعية في ستينيات القرن الماضي حين استدعاه السفير الموريتاني لدى موسكو، وهدده بالفصل إن هو تمادى في طرحه المناهض للرق.
بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، ومع تأسيس حركة الحر، التي كانت أول نواة سياسية للأرقاء السابقين، والتي قادها ولد مسعود لبعض الوقت، اعتُقل الأخير وبعض رفاقه في أول قضية مناهضة للرق على خلفية بيع فتاة في شمال البلاد، وعرفت القضية بقضية ولد مسعود.
ولد مسعود، الذي سيكمل عقده السابع قريباً، متفائل اليوم ويقول لـ«الأخبار» إن تطبيق القانون سيقضي في النهاية على ظاهرة الرق التي يرى أنها مستفحلة في كل من تشاد ومالي والنيجر وغينيا.

«العبودية جائزة شرعاً»

ويرى أن العبودية في موريتانيا في طريقها الى الاندثار في صفوف الصغار، لكن المعتقدات تحول دون القضاء عليها في صفوف الكبار، حيث يعتقدون بأنها جائزة شرعاً، وهذا الفهم السيّئ للدين يساهم في بقاء الظاهرة.
عاشت موريتانيا عهود الرق والاستعباد حتى وقت قريب، وظلت الأسر الموريتانية من مختلف المحافظات تملك «جواري وخدماً» يقومون بخدمتها، ويجري توارثهم من طرف أفراد الأسرة كما يتوارث العقار والمال. كذلك كانت تجارة الرقيق مهنة عادية كبيع الجمال والخرفان.
ويرجع الباحثون رفض الموريتانيات دخول المطبخ وإعداد وجبات لعائلاتهن، لأنهن يعتبرن إعداد الوجبات والقيام بالأعمال المنزلية انتقاصاً من مكانتهن وتأثراً بالماضي الذي كان فيه إعداد الأعمال المنزلية من واجبات الإماء.

أصول «العبيد»

لا توجد في موريتانيا المبنية ثقافتها بشكل أساسي على الثقافة الشفوية أي وثائق تؤكد تأصيلاً معقولاً للعبودية.
ويرى باحثون، من بينهم الباحث الحسين ولد محنض، أن استعباد الموريتانيين بعضهم بعضاً كان يحصل انطلاقاً من قانون الغلبة والسيطرة الذي هو أهم روافد الرق. ويؤصل ولد محنض الفكرة ويبسطها قائلاً: قد مثّلت قبائل إيزكارن شأنها في ذلك شأن أخواتها إيرنكانن، أول روافد الاستعباد المعروف في هذه البلاد، فقد اصطدمت قبائل إيزكارن بأفواج صنهاجة الأولى التي قدمت من بلاد شنقيط مستهل العهد المسيحي، ولا يزال استعباد إيزكارن موجوداً في التقاليد المروية حتى اليوم.
ويرى الباحث الحقوقي محمد الأمجد ولد محمد الأمين أن الثقافة الشعبية للمجتمع الموريتاني بأمثلتها وشعرها الشعبي تعبير عن مثال واضح لترسخ إيديولوجية الاستعباد وما يرتبط به من نظرة تراتبية طبقية، ومن نافلة القول إن هذه الإيديولوجية هي مركب من مشترك يتزاوج فيه تراث وتاريخ الممارسات الاسترقاقية البربرىة والزنجية والعربية.
ويقول محمد الأمجد في كتابه تحت الطبع «مسيرة الحرية أو قصة العبودية في موريتانيا»، إن عمليات الاسترقاق تواصلت في موريتانيا طيلة القرون الماضية عن طريق الأسر الناتج من الحرب تارة ومن طريق الخطف والبيع الناتج من الفاقة والحاجة وتطور النخاسة تارة أخرى.
يرى المتتبع للظاهرة أن المستعمر الفرنسي حارب العبودية رمزياً، ومع استقلال البلاد عن فرنسا في 28 تشرين الثاني 1960 بدأت الدولة بمحاربة الظاهرة. وتعهدت حركة الحر من خلال المادة الأولى لميثاقها بالكفاح الجاد من أجل الانعتاق والمساواة والكرامة والسعادة للأرقاء.
وبعد عقدين على الاستقلال، أصدر حكام عسكريون مطلع ثمانينيات القرن الماضي القانون المحرم للرق، وساهم ذلك في تحريم الرق، إلا أن غياب الترسانة القانونية حال دون معالجة الظاهرة بشكل كاف، ليأتي أول برلمان تعددي وعلى رأسه أحد الأرقاء السابقين هو رئيس البرلمان الحالي مسعود ولد بلخير، ليصدر بالإجماع قانوناً يجرم ممارسة الظاهرة، وهو القانون الجاري به العمل الآن.
استحدثت السلطات في الأيام الماضية وكالة لمحاربة الاستعباد، وهي جهاز حكومي برتبة وزارة دولة تقول السلطات إنها ستقوم باجتثاث بقايا الظاهرة وتنفيذ برامج إنمائية لمصلحة الأرقاء السابقين.
ووسط ارتياح ملحوظ في الأوساط الشعبية التي تدفع دائماً نحو الأمل، تباينت آراء السياسيين الموريتانيين حول قرار الحكومة استحداث هيئة لمكافحة الرق تابعة لرئاسة الجمهورية، حيث أكد بعضهم أنها «خطوة مهمة» في طريق القضاء على آثار العبودية، بينما أشار آخرون إلى أنها مجرد «تخريجة إعلامية».



أرقّاء سياسيون

يبدو أن الأرقّاء السابقين في موريتانيا ليسوا جميعهم من فئات شعبية، بل هناك سياسيون كانوا في الماضي أرقّاء (الحراطين) وأصبحوا اليوم في مراكز عليا في الدولة، مثل رئيس البرلمان مسعود ولد بلخير، الذي يقود أيضاً حزب التحالف الشعبي التقدمي (الناصري)، وهو كذلك وزير سابق ومرشح سابق للرئاسة.
وهو أول شخص من «الحراطين» يحتل منصباً بهذه الأهمية في موريتانيا.
في سنة 1978 أسس ولد بلخير مع بعض رفاقه «حركة الحر»، وهي منظمة تعنى بالقضاء ومحاربة العبودية في موريتانيا.
وتحالف معظم الأرقاء السابقين مع حزب التحالف الشعبي التقدمي، واندمجوا فيه خلال تسعينيات القرن الماضي إبان إقامة الرئيس السابق معاوية ولد الطايع للعلاقات مع إسرائيل، يتناوبون اليوم مع الناصريين على هرم هذه الحزب.