رام الله | إلى الشمال من مدينة القدس المحتلة، ثمة قرية صغيرة ومعزولة، لا يتعدى عدد سكانها 1100 نسمة، لكن تحتل موقعاً استراتيجياً على تخوم القدس؛ تتوسّط عدداً من المصانع والمنشآت الحيوية، من بينها مواقع للصناعات العسكرية، ويحدّها مطار القدس المعروف باسم «مطار قلنديا»، الذي أنشئ في عهد الانتداب البريطاني، وتطالب السلطة الفلسطينية اليوم بأن يكون مطارها الرسمي في الدولة المنتظرة. موقع القرية الحيوي هذا جعلها، كغيرها من قرى القدس تحديداً، عرضةً للمشاريع العسكرية والاستيطانية الإسرائيلية، مكرّرين في كل مرة الحديث عن «الاحتياجات الأمنية» لدولة الكيان الصهيوني، تلك الاحتياجات التي تتجدد عند كل إجراء، أسفرت أخيراً عن «ضم» الجزء الشرقي من القرية إلى داخل «الخط الأخضر». لكن ما تسمّيه إسرائيل «ضمّاً» هو في الحقيقة عملية تعديل لمسار جدار الفصل العنصري ليقطع القرية إلى قسمين؛ ثلاثة منازل فقط في القسم الشرقي تتبع لدولة الاحتلال، أما باقي منازل القرية فتتبع لمناطق السلطة الفلسطينية. هكذا بين يوم وليلة، تغيّرت خارطة القرية بقرار إسرائيلي، أما أهلها الذين يعيشون معاً منذ مئات السنين، فقد أصبحت زياراتهم وتعاملاتهم كلها مرهونة بإشارة من الضابط الإسرائيلي. اليوم، تعيش عائلات ثلاث فقط في القسم الشرقي من القرية؛ عائلتان منهما تحملان الهوية الزرقاء الإسرائيلية، وأخرى تحمل الهوية الخضراء الفلسطينية، رغم صلة القرابة المباشرة التي تجمع تلك العائلات. تلك إحدى مفارقات الاحتلال الطريفة؛ أن تكون العائلة الواحدة متعددة الجنسيات، وبالتالي تصبح العلاقات الطبيعية والحضارية بين أفراد العائلة الواحدة مقيّدة بقوانين الاحتلال الصارمة.
في الجزء غير المعزول من هذه القرية على سبيل المثال، هناك من يحمل الهوية الزرقاء والخضراء، وهم على صلة قرابة مباشرة بأهالي القسم الشرقي، لكن من يُسمح له بالدخول لزيارة أهله هو حامل الهوية الزرقاء فقط، ويحرم حملة الهوية الخضراء منها، «وحتى من يحصل على تصريح بالدخول إلى القدس يُمنع من زيارة هذه المنطقة تحديداً»، بحسب ما يقول يوسف عوض الله، رئيس مجلس قلنديا القروي، لـ«الأخبار».
وفي الجزء المعزول من القرية، أصبحت حياة العائلات الثلاث في المنطقة مقيّدة ضمن جدول الاحتلال اليومي، ثلاث ساعات فقط على مدار اليوم يُسمح للأهالي خلالها بالدخول والخروج من البوابة التي يقيمها الاحتلال في المكان، من السابعة مساءً حتى الثامنة والنصف صباحا، ومن 12:30 حتى الواحدة ظهراً، ومن الرابعة حتى الخامسة عصراً، لكن لعائلة محمود عوض الله ظرف خاص من بين العائلات الثلاث، كونها هي الوحيدة التي يحمل أفرادها الهوية الفلسطينية. تعيش العائلة اليوم داخل «غيتو» إسرائيلي، في شبه عزلة عن العالم، فلا هي تستطيع التنقل بحرّية داخل مناطق «الخط الأخضر» كالعائلتين الأخريين، ولا تستطيع كذلك التحرك إلى مناطق الضفة الغربية، إلا خلال «أوقات المرور»، التي حددها الاحتلال، الذي لا يبدي مرونة إزاء أي ظرف «إنساني» أو «عائلي» طارئ.
ربّما تمثّل حالة عائلة محمود عوض الله مثالاً صارخاً على استهتار الاحتلال بحياة الإنسان الفلسطيني. إسرائيل تفكّر «باحتياجاتها الأمنية» فقط، وفي الوقت نفسه، هي غير مستعدة لأن تفكر كيف يمكن أن توفّر حياة طبيعية لعائلة فلسطينية واحدة. يتجسّد ذلك في حديث الناشط الشبابي محمود عوض الله، الذي يقول لـ«الأخبار»: «في إحدى الليالي بعدما أغلقت سلطات الاحتلال بوابة القرية، مرضت والدتي ومُنعنا من نقلها إلى المستشفى، واضطررنا للانتظار إلى اليوم التالي كي نتمكّن من نقلها». كذلك تُمنع السيارات من الدخول والخروج إلى المنطقة كما يقول عوض الله، حتى من يحملون الهوية الزرقاء يضطرون إلى سلوك طريق طويل للوصول إلى القسم الثاني من القرية خارج «أوقات الزيارات»، حيث يسلكون طريق رافات مروراً بكفر عقب، ثمّ يدخلون عبر معبر قلنديا المزدحم على مدار الساعة. هكذا يحوّل الاحتلال الدقائق الخمس بين قسمي القرية الصغيرة إلى رحلة قد تستغرق ساعة كاملة.
حتى العلاقات الاجتماعية الطبيعية بين العائلات تأثرت، السهرات والمناسبات العائلية المختلفة هي عادات درج عليها أهل القرى الفلسطينية، لكنها أصبحت مقنّنة بعد القرار الإسرائيلي؛ علاقات الزواج بين من يحملون الهوية الإسرائيلية والفلسطينية من أبناء العائلة الواحدة أصبحت تنطوي على الكثير من الصعوبات والتعقيدات. يقول يوسف عوض الله: «أنا أحمل الهوية الزرقاء، وأجبر على قطع مسافة طويلة للوصول إلى القسم الثاني من القرية، لكن ما فائدة الهوية ما دمت منعزلاً عن أرضي وأهلي، الأب في جهة والأولاد في جهة أخرى، أنا أعيش في القسم الشرقي، وأولادي وإخوتي يعيشون في القسم الغربي، وزياراتنا اليومية انقطعت منذ قسّموا القرية». لكن ما يثير مخاوف أهل تلك المنطقة جدّياً، هو أن يتم عزلهم نهائياً عن أهلهم ومحيطهم في حال تصعيد أمر ما، وإغلاق المنطقة على نحو كامل.
لكن لماذا وقع الاختيار على القسم الشرقي من القرية تحديداً؟ يقول محمود عوض الله إن: «أهمية المنطقة تعود إلى موقعها الاستراتيجي، هي تقع بمحاذاة المطار، ومنطقة عطروت الصناعية، وهناك أيضاً شارع مهم هو شارع 443، وهناك دوار مدخل عطروت. هذا الحي ملاصق لدوار عطروت مباشرة، ولذلك هم تعمدوا ألا يضعوا الجدار على الطريق مباشرة، وأن يضمّوا الحي هذا بوضع الجدار العازل خلفه، بحيث يتركون مسافة أمان للشارع الالتفافي والدوار الاستراتيجي، وهناك أيضاً مصنع لشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية «ماتا» المختصة بتصنيع طائرات المروحيات وصيانتها».
لم تأت كل الالتماسات التي قدّمها أهالي القرية إلى المحاكم الإسرائيلية بنتيجة حتى الآن، «هم يرفضون الاستجابة أو حتى البت في الموضوع حتى الآن»، يقول عوض الله. يعتزم الأهالي الآن التوجه إلى «المحكمة العليا الإسرائيلية»، ويطالبون إما بتوفير حرية كاملة لهم في التنقل والحركة، أو الحصول على هويات مقدسية.