تحار من أين تبدأ التعليق على كلام ميشال سليمان في عيد الجيش. كل ما جاء فيه وكل ما كان حوله، مثير للحيرة. المكان والزمان والشكل والمضمون والنبرة والسحنة والخلفية والتطلع... باختصار، قد يكون أفضل عنوان لخطابه، أمس، أنه إعلان حرب إلغاء على المقاومة، لا على حزب الله وحده. أو نداء لبدء معركة توحيد البندقية، تحت إمرة ميشال سليمان شخصياً. أما التبريرات لذلك فموجودة في الخطاب، من نوع زجليات المستكتبين وشكليات الوثائق العتيقة المغبّرة والمنبوشة من «الجوارير» السود: أمن وسيادة وكرامة وحقوق وفراغ وأخطاء وخطايا وإرهاب وثقة واستمرارية وديموقراطية ومبادئ وثوابت وعزة وتضحية... أكثر من دزينة مصطلحات لفظية حشرها الخطاب ضمن 1500 كلمة أخرى، ليقول ما مغزاه: إنه التوقيت المثالي لإذاعة البلاغ الرقم واحد ولفرض نظام الأمر لي.
كيف؟ كأن من كتب الخطاب فكّر كالآتي: أولاً، هناك قرار غربي بمحاصرة المقاومة، وقد انتقل أخيراً مع الخطوة الأوروبية من النيات إلى التطبيق. ثانياً، هناك تهافت عربي خلف هذا القرار الغربي، يبلغ لدى مقدمي هدايا الساعات الذهبية بالدزينة، حد الحقد المذهبي العميق والدفين، وحتى المزايدة والمبالغة والمغالاة في الانكشارية العربية عند الأميركي. فكيف إذا كانت الساعة ساعة هؤلاء وساعة حقدهم، وهم يعتقدون بأنها اللحظة الذهبية لمحاولة تجسيد تلك الأحقاد؟ أكثر من ذلك، كأن كل العوامل الأخرى متضافرة معاً: فمن ناحية ثالثة، سوريا مربكة ومشغولة، لن ترتاح قبل أعوام. وحتى إذا ارتاحت فهي لن تبلّ من حربها قبل عقود، ولن تعود حكماً مؤثرة في الداخل اللبناني. رابعاً، ميشال عون على تمايز مع المقاومة، تمايز نقدر أن نزيد ثغرته لتصير شقاً خلافياً. خامساً، قائد الجيش حيّدناه أمس بالذات. وقّعنا له تمديداً إدارياً لسنتين، فبات خاضعاً لسلطة قرار وزير، بدل أن يكون محصّناً بقانون أو دستور أو ميثاق. سادساً، قبل أيام كنا في بلاد العم سام. صحيح أن المناسبة كانت للاطمئنان إلى عدم قصر النظر. لكن مجرد وطأ تلك الأرض يضفي بعد البصيرة حتى لضرير، تماماً كما لو أنها تجسيد دائم للمعجزة الإنجيلية... وإلا لماذا كتب الأميركيون على دولارهم أنهم «بالله يؤمنون»؟
هكذا كل الظروف مساعدة. لا بل تكاد تكون مثالية لتسديد الضربة: فلتكن كل البلاد بإمرة العسكر، وليكن العسكر بإمرتي أنا شخصياً، تلافياً لأي فراغ آت. هذا هو جوهر خطاب ميشال سليمان. نفخ المؤسسة العسكرية لتصير فوق كل المؤسسات، لا بل لتلغيها كلها، وذلك بعد تمهيد بروباغاندي مشبوه طيلة أيام وأسابيع عبر إعلام التفاهة الاجتماعية، ثم الإعلان أن كل شيء، كل شيء من دون استثناء، المقاومة والدولة وحتى الجيش نفسه، خاضع لما سماه الخطاب «القيادة السياسية العليا الناظمة الأساسية والمقررة»... من المقصود بالقيادة السياسية العليا؟ إنها إشارة متذاكية لا أكثر إلى عبارة المادة 49 من الدستور، التي تردح أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. من دون أن يذكر الخطاب تتمة العبارة نفسها، التي تؤكد خضوع تلك القوات، وبالتالي قائدها ـــ لسلطة مجلس الوزراء. هكذا يكتمل الطرح الأوتوقراطي المطلق، بصياغة ديموقراطية مجوّفة.
أما قضايا الكيان الأساسية، من أزمة النظام الهجين التابع، الذي سمح لضابط سوري ذات يوم بأن يعين ميشال سليمان قائداً للجيش، أو الذي سمح مرة أخرى بانتخابه رئيساً للجمهورية خلافاً للدستور، إلى أزمة الجماعات المشلّعة في وجدانها وهوياتها، إلى أزمة الفرد المواطن عندنا، في فساده وتخلّفه، حتى يصبح عندنا 1700 محطة بنزين مخالفة للقانون، أو حاجز مدني على طريق كسروانية يهتم بتعداد شاحنات المرامل والكسارات غير الشرعية من أجل دقة احتساب الأتاوات، أو أن يشهّر الإعلام الأجنبي بأعلى مقام عندنا ويتهمه بالتزوير ولا من يرد أو يوضح أو يصحح أو يكذب، فتلك تفاصيل هامشية لا لزوم لها الآن ولا في أي آن.
فظيع خطاب ميشال سليمان! يكاد يجعلك تتمنى لو ألقاه قائد للجيش، لا في الأول من آب 2013، بل في أي يوم آخر، في 7 آب 2001 مثلاً، أو في 9 آب من ذاك العام، لكم كنا اختصرنا عذابات ومعاناة وتضحيات، ولكم كنا وفرنا تبديل صور في الإطار نفسه في بعض المكاتب المحترفة تبديل الصور.
لا ينقص خطاب ميشال سليمان إلا من يشرح له أن «النفاذ» بحرف الذال، يعني الدخول من الثقب. أما انتهاء الأمر أو الوقت، فهو «النفاد» بحرف الدال. ومن يصحح له أنه حين يقول إن «ما لا يريده الشعب اللبناني هو أن لا تروي دماء أبنائه تراباً غير تراب الوطن المقدس»، يصير القصد أنه يريد الدماء اللبنانية فعلاً خارج لبنان. وأن الصحيح ـــ في اللغة على الأقل ـــ إسقاط إحدى اللاءين من الجملة، إذا كان المقصود منها العكس. أما اللا الخاصة بي شخصياً، فلن أسقطها أبداً.