لم تعد هناء ملاحقة قضائياً. تلك الأم التي كانت مهددة بالحبس، بقرار من إحدى القاضيات في الشمال، أصبح بإمكانها الآن العودة إلى حياتها الطبيعية. حصل هذا بعد قرار جديد للقاضية نازك الخطيب، رجعت فيه عن قرار زميلتها القاضية الأولى، مانعة الحبس عن الأم في قضية «منع الوالد من مشاهدة ابنته». هذه القضية التي كانت «الأخبار» قد أثارتها، قبل أسبوع، تحت عنوان «هكذا تسحق قاضية روح مراهقة».
إثر ذلك تفاعلت على نحو واسع في الشمال وطرابلس تحديداً، بين القضاة والمحامين والمتابعين. من جملة ردود الفعل أن الهيئات النسائية والجمعيات الأهلية والمدنية، في الشمال، أصدرت بياناً استهجنت فيه القرار القاضي بحبس إحدى الأمهات لمدة ستة أشهر. بالنسبة إليهم «التهمة جائرة بحقها، لرفض ابنتها البالغة 13 عاماً مشاهدة والدها، على الرغم من أنها لم تتمنع عن اصطحاب ابنتها للمشاهدة بحضور الوالد».
بالتأكيد ليس من حق أحد التعرّض لأي قاض بسبب حكم أو قرار أصدره، ما دام هو وفقاً للقوانين والاجتهادات، ولا يقع ضمن نطاق «الخطأ الجسيم». لكن تلك الجمعيات الناشطة في الشمال، إضافة إلى قضاة ومحامين، انطلقوا في رفضهم هذا القرار من قاعدة «الخطأ الجسيم» المذكور. برأي هؤلاء، ومنهم وكيلة الأم المحامية غزل مرعب، أن نص قانون أصول المحاكمات المدنية يتحدث عن «عقوبة الحبس في تنفيذ أحكام دعاوى تسليم القاصر، وليس في المشاهدة، والقضية التي نحن في صددها هي مشاهدة، وبالتالي كيف يُحكم بالحبس؟... إذاً، هذا نموذج لما يُعبّر عنه في لغة القانون بالخطأ الجسيم».
أخذ النقاش مداه في الشمال، وانهالت الاتصالات المستفسرة عن وجهة القضية، إلى حد تهديد الجمعيات واللجان المذكورة باعتصامات أمام قصر العدل في حال لم تُحلّ هذه القضية. وصل إلى «الأخبار» الكثير من الملاحظات، من جانب والد الفتاة، وكان أكثرها إيجابياً. يُشار هنا إلى أن ما نُشر لم تكن الغاية منه، من حيث المبدأ، الغوص في العلاقة العاطفية بين الفتاة ووالدها، أو حتى بين الفتاة ووالدتها، بل الإضاءة على قرار القضاء سجن الأم وملاحقتها على تلك الخلفية. اللافت أن الوالدة كانت سابقاً قد تعرّضت لمحاولة توقيف في المخفر، قبل أن يتصل الأمنيون بالمدّعي العام في الشمال ويضعوه في أجواء القضية، فأمر بمنع تنفيذ قرار التوقيف وتسليمها ابنتها وتركهما. آنذاك وصلت إلى المدّعي العام تقارير وإفادات تؤكد حالة الهلع التي تُصيب الفتاة، ومنها تقارير طبية، وذلك كلما أجبرها أحدهم على الجلوس مع والدها. لكن لاحقاً، وبعد ترك الأم وابنتها، عادت القاضية الأولى وأصدرت قراراً بالسجن من جديد.
إلى ذلك، وبعد شيوع القضية قبل حوالى أسبوع، وصدور بيان توضيحي من مجلس القضاء الأعلى، أرسل وكيل الوالد، المحامي رائد السلطي، رسالة توضيحية، أكّد فيها وجهة نظر موكله. يقول في الرسالة: «القضية هي قصة أب لم يتمكن من مشاهدة ابنته منذ أكثر من عامين سوى 4 مرات في الشهر الأول بعد الطلاق. استخدمت بوجهه كل الأسلحة القانونية وغير القانونية وأحياناً غير الإنسانية، كالتقرير الذي أشرتم إليه في المقالة والمنظم من أحد الأطباء، الذي خلص في نتيجته إلى أن الأب يعاني اضطراباً نفسياً، من دون أن يراه أو يخضعه لأي فحص من أي نوع كان». ويضيف البيان: «أما سبب القصة فهو ادعاء والدة الفتاة أن الأخيرة ترفض تنفيذ حكم المشاهدة، وهذا موضوع صحيح ولا نقاش حوله. ولكن مربط النقاش هو لماذا ترفض الابنة القاصر «دلّوعة البابا» مشاهدته؟ ! الجواب موثّق بتقارير لأطباء ومعالجين نفسيين عاينوا الفتاة وأثبتوا أنها تعاني من مرض «التغريب الأبوي» (Alienation Parentale)، وأن هذا المرض تتمركز أسبابه في «البيئة الحاضنة» للطفل، أي حيث تعيش. أي إن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق والدة الفتاة وأسرة الوالدة». ويختم البيان: «وأخيراً نسأل ونتساءل هل رغبة الوالد في مشاهدة ابنته الوحيدة، لحقّه في ذلك، ولمعالجتها من مرض نفسي أصابها سبّبته الوالدة، جريمة يعاقب عليها القانون؟!». هكذا، لكل تقاريره، لدى الأم والأب على حد سواء، وكلها تقارير طبية ومصدقة! ربما على الجهات المعنية اليوم بالتحقيقات، بذل المزيد من الجهد في التثبت من صحة هذه التقارير، أو بالأحرى دقتها العلمية، من جهة الأم والأب، ولتكن عندها الكلمة لعدالة القضاء.
بيان المحامي وكيل الوالد أرسل قبل صدور قرار القاضية الخطيب التي أنهت بموجبه الجدل في مسألة حبس الوالدة، لتبقى مشكلة العائلة قائمة. اليوم لم تعد الأم مهددة بالحبس، لكن المشكلة، بعيداً عن القانون، لا تزال كما هي. مشكلة حلها أبعد من النصوص. وما نفع النصوص مع فتاة معلقة بين أبوين، بين شرع وعدلية، بين اجتهادات متضاربة... فتاة كيف يتصور أهلها، كلاهما، في ظل كل هذا الضجيج، أن تبقى على طبيعتها؟