فيما يقاتل 46 طيّاراً من أجل حقهم في العمل، قرر وزير العمل سليم جريصاتي الترخيص لشركة الخطوط الجوية عبر المتوسط TMA باستقدام طيارين أجانب إضافيين. قراره يفضح التواطؤ مع مالكي الشركة الذين يتهرّبون من ضمان حقوق الطيارين المصروفين تعسفاً قبل سنوات. قرار وزير العمل يعدّ مكافأة للشركة فيما كان الطيارون المصروفون ينتظرون منه القيام بواجباتهم لإعادتهم إلى عملهم أو على الأقل تحصيل حقوقهم المأكولة.
حصيلة المكافأة تسع إجازات عمل لطيارين أجانب. بهذا العدد أصبح مجمل عدد الأجانب العاملين في هذه الشركة 18 موظفاً بينهم 13 طياراً. لم يكن ينقص سوق العمل إلا قرارات وزارة العمل الاستنسابية. هذه السوق لا تتمكن من خلق وظائف كافية للداخلين الجدد إليها من الشباب المقيمين، لكن وزارة العمل لا ترى مانعاً من «تمييز» الشركات المملوكة من آل الحريري مثل TMA.
خلال الأسابيع الماضية، نفّذ الطيارون المصروفون من شركة TMA وعائلاتهم تحركات عديدة للمطالبة بحقوقهم المسروقة. هؤلاء الطيارون صُرفوا تعسفاً من عملهم لدى هذه الشركة قبل نحو 8 سنوات من دون أي تعويض. في البدء عقدوا مؤتمراً صحافياً في نقابة الصحافة لإطلاق سلسلة تحركاتهم التي بدأت بتنفيذ اعتصام أمام مبنى الشركة في مطار بيروت الدولي. هذه السلسلة ستمتد إلى اعتصام أمام مقرّ مالكي الشركة الأصليين، أي «بنك ميد»... سبق هذه التحرّكات اتصالات أجراها وفد من مجلس إدارة نقابة الطيارين والطيارين المصروفين مع المسؤولين المعنيين بهذا الملف. بدأ الأمر بوزير الوصاية على مطار بيروت، وزير الأشغال العامة غازي العريضي. يومها تبلّغ الوفد من العريضي الآتي: «لدي كتاب من شركة TMA يفوّضني التصرف في معالجة مشكلة الطيارين وأنا سأتواصل مع مالكي الشركة».
المواعيد تتالت مع كل من نادر الحريري والنائبة بهية الحريري ووزير العمل سليم جريصاتي. كل ما حصده الوفد هو كلام ذو طابع إيجابي. نادر الحريري أبلغ الطيارين قائلاً: «نحن لا نأكل حقّ أحد، والمصروفون سينالون حقوقهم، ونحن نفضل التوصل إلى حلّ حبّي، لا أن تحلّ في المحاكم». أمه بهية، نائبة صيدا، أبلغت الوفد بالآتي: «نحن لا نأكل حقّ أحد وسأتواصل مع محمد (محمد الحريري هو رئيس مجلس إدارة بنك ميد) لمعالجة هذه المسألة». إلا أن ما قاله جريصاتي كان أكثر إيلاماً مما سبقه؛ لأنه تراجع عن كلامه بسرعة البرق من دون أي مبرّرات. جريصاتي قال لوفد الطيارين في المرّة الأولى: «أبلغني رئيس الاتحاد العمالي غسان غصن (وهو موظف في الشركة المذكورة) بأنه تدخّل لمعالجة هذه المسألة، ومن جهتي أنا لن أعطي الشركة أي تراخيص لتشغيل طيارين أجانب». وفي المرّة الثانية قال بعض الطياريين لجريصاتي إن هناك كلاماً عن منح الشركة إجازات عمل لطيارين أجانب، فأجابهم بأن «الإجازات الممنوحة هي مؤقتة ولغايات التدريب فقط ولعدد 3 طيارين فقط».
ما حصل لاحقاً يكشف وقائع مغايرة. فمع كل التحرّكات التي قام بها الطيارون خلال الأيام الماضية، لم ينهزّ أيٌّ من المسؤولين في اتجاه تطبيق القانون والضغط على مالكي الشركة لسداد تعويضات الطيارين التي لا تزيد على مليوني دولار. بعض الطيارين لن يكون حاضراً لقبض تعويضه؛ لأن المنية كانت أقرب إليه من حقه لدى آل الحريري. وبعضهم الآخر يعمل الآن في مهن مختلفة وغريبة عنه لكسب العيش، فيما وزير العمل يغدق بإجازات العمل على شركة TMA.
وبحسب معلومات موثوقة، وافق جريصاتي على منح شركة TMA تسع إجازات عمل لطيارين أجانب في 8 تموز الماضي. طلب الشركة كان قد ورد إلى وزارة العمل موقعاً من رياض مكاوي بصفته مفوضاً في التوقيع عنها في 24 أيار 2013. موضوع الطلب هو «إجازات عمل لتسعة طيارين من الجنسيات الآتية: واحد بريطاني، واحد يوناني، و7 برتغاليون. أما نوع عملهم فهو طيارون متدربون مناوبون. اختصاصهم هو الطيران». ويتضمن الملف معلومات عن الشركة تؤكد أن عدد عمالها المصرّح عنهم للضمان الاجتماعي هو 190 موظّفاً بينهم 9 أجانب وأن الشركة استحصلت في عام 2012 على إجازات عمل لأربعة طيارين.
وفي 10 حزيران سجّل رئيس الدائرة المعنية في وزارة العمل رفضه منح الإجازات، مقترحاً «عدم الموافقة على الطلب»، ثم أحيل الملف على رئيس المصلحة المعنية فكتب مخاطباً المدير العام لوزارة العمل (بالتسلسل الإداري) الآتي: «سبق وأشرنا إلى أن هناك نقابة للطيارين اللبنانيين التي من الممكن أن تعترض على موضوع الاستقدام وبناءً على إحالة رئيس الدائرة اقترح عدم الموافقة».
واستناداً إلى هذه الاقتراحات، ذكر المدير العام للوزارة بالإنابة عبد الله رزوق في 12 حزيران عبارة: «مع اقتراح عدم الموافقة»، ثم أحيل الملف على وزير العمل سليم جريصاتي. هناك انقلبت كل الموازين، فالوزير كتب على الملف: «مع الموافقة على تسعة طيارين مدربين حاجة الطائرة المستأجرة 777 بالجنسيات المطلوبة».
بهذه البساطة والخفّة تراجع وزير العمل عن كلامه ووعوده للطيارين. هو الوزير الذي فرض عليه العماد ميشال عون أن يلتقي الطيارين وأن يناصر قضيتهم ويسترجع حقوقهم. اليوم أصبح كلام عون مثل كلام الباقين.
في ضوء كل هذه المعطيات، ماذا يقول نقيب الطيارين فادي خليل؟ الكابتن فادي يؤكد لـ«الأخبار» أن الذريعة المستعملة لمنح إجازات العمل ليست إلا ذريعة واهية، «فهم يستقدمون الطيارين الأجانب بحجة أنهم مدربون سيعملون على تدريب الطيارين اللبنانيين على طائرة من الطراز الحديث، لكن الواقع أن هذا العدد كبير جداً للقيام بعمليات التدريب، وهو لا يتناسب مع عمل فريق كامل على طائرة واحدة أيضاً». هذه الملاحظات هي شكلية فقط، لكن الملاحظة الجوهرية هي تلك التي تذكرها «اتفاقية شيكاغو» يقول خليل. هذه الاتفاقية تفرض على شركات الطيران في العالم أن «تشتري الطائرات من الطراز الجديد وأن تدرب طياريها على قيادتها، وبالتالي لا يمكن أحداً أن يتذرّع بالتدريب لاستقدام طيارين أجانب، لأن التدريب يجب أن يكون جزءاً أساسياً من عملية شراء الطائرة، وخطوة تمهيدية لتشغيلها» وفق خليل.
وخلافاً للشائعات التي تسود في سوق العمل، هناك الكثير من الطيارين اللبنانيين العاطلين من العمل. فبحسب خليل «إن كلفة حيازة رخصة الطيران تصل إلى 100 ألف دولار، لكن الشركات ترفض استقبال الطيارين اللبنانيين المتخرجين حديثاً لأنها لا تريد سداد كلفة تدريبهم على الطراز المستخدم لديها... حال هؤلاء كحال الطيارين المصروفين؛ إذ لدى بعضهم القدرة على الطيران، لكن الشركة لم تدفع تعويضاتهم وبدأت تستقدم الأجانب».