خلافاً لمواقفهم إبّان غزو العراق، انبرى بعض المثقفين لتسويغ التدخل الخارجي ومن ثم العدوان على سوريا. ولأن الظروف في الحالتين متشابهة إلى حد كبير، يمكن القول إن الذي تغيّر هم هؤلاء المثقفون أنفسهم. كان لعزمي بشارة أهمية بصفته عضواً في الكنيست الإسرائيلي عندما حصل غزو العراق.
مواقفه «القومية» من داخل الكيان كانت دون شك مؤثرة وتعبّر عن خوضه للصراع من داخل البنية وفق آلياتها مع بعض التجاوزات من حين لآخر. ولعل الرؤية من الداخل كانت أكثر صفاءً، بحيث كان ممكناً له التمييز وتعيين العدو. ولما قرّر الخروج إلى مسرح العالم العربي، انضمّ، أولاً، إلى معسكر المقاومة الذي نصّبه «مفكراً كبيراً» وحرص على حسن إقامته ورقيها. وما إن تحقق للرجل، بفضل سوريا والمقاومة، من مكانة يمكنه ترصيدها، حتى انتقل إلى المعسكر المعادي.
أما نصير الدين الطوسي. وهو من كبار علماء الفرس، فقد خرج من نيسابور، بعد الغزوة المغولية الأولى بقيادة «جنكيز خان» الذي دمر وقتل وعاث خراباً، وخلق وضعاً إقليمياً متوتراً وخطراً للغاية. وفي هذه الظروف، طلب الإسماعيليون المتحصنون في القلاع الشهيرة، وبسبب اهتمامهم بالعلماء والفلاسفة، الطوسي، فحضر إلى قلعة «آلموت»، حيث يقيم زعيم الإسماعيليين، ركن الدين خورشاه، وما لبث الطوسي أن صار بمثابة وزيره، ومحل تبجيل الاسماعيليين، إلى أن حدثت الغزوة المغولية الثانية بقيادة «هولاكو»، حفيد «جنكيزخان».
وبينما كان «الطوسي» عاكفاً على أبحاثه داخل القلعة، كان عزمي بشارة، يجوب العواصم، ويطلّ من خلال الشاشات، ويقيم صلات ومعارف جديدة مع قادة وزعماء عرب، ويميز الفارق النوعي في أبهة الإقامة بين دولة وأخرى. لم يغادر الطوسي «القلعة» إلا بعد اشتداد حصارها من قبل هولاكو، وإلا بعد أن اتضح له، ولصاحبها خورشاه، أن المقاومة ميؤوس منها. لكن عزمي بشارة اختار، مبكراً، مغادرة معسكر المقاومة، على رغم تعاظم قوة هذا المعسكر وانفتاح أفق الإنجاز أمامه. وبينما أقنع الطوسي، هولاكو، بكفاءته العلمية بالضرب على الطاسات لمنع خسوف القمر، أقنع بشارة معسكره الجديد بكفاءته لـ«قيادة» الضرب على الطاسات من محطة «الجزيرة»، لمنع خسوف القمر الخليجي، وتوجيه الملايين في ميدان التحرير والميادين العربية الأخرى، نحو المسالك التي تخدم سادة الغاز القطري.
تزامنت غزوة «هولاكو» مع حالة من الانقسام والانحلال سادت على جسد الأمة، حين كانت الخلافة العباسية ضعيفة جداً، أيام المستعصم، بسبب الفساد والصراعات الفوقية على السلطة. ولما كانت كل من بغداد ودمشق نصب عينيه، طلب هولاكو المشورة ـ التجسسية ـ من الطوسي عن أحوال المدينتين، استعداداً للحرب. ونظراً إلى خلافه الشديد مع العباسيين، لم يتردد الطوسي في مد يد العون للغزوة الخارجية القادمة لتدمير ما بقي من الخلافة الاسلامية، حكماً ومدناً وحواضر وتاريخاً وتراثاً. غير أن عزمي بشارة لم يكن من خصوم معسكر المقاومة، بل كان يزعم أنه من أكبر أنصاره، ومع ذلك قرر مد يد العون للغزوة الخارجية الآتية لتدميره بدوله وأحزابه ومدنه وتاريخه وتراثه. ولما كان هولاكو مولعاًَ بالتنجيم ويخشى اللعنات ويصدق أساطيرها، حرص على سؤال الطوسي عن عواقب غزوته لبغداد وتدميرها وقتل خليفتها وآل بيته. (إذ كان يؤمن بأن جدّه جنكيزخان إنما أخطأ عندما أسال دماء الزعماء على الأرض، وهو ما أصاب جيشه بلعنة ردّته إلى بلاده دون تحقيق كامل أهدافه). شجّع الطوسي هولاكو على المضي قدماً، واقترح له حلاً لمعضلته، لكنه طالبه، بالمقابل، بثمن هو بناء مرصد فلكي في «مراغة». وهو الحلم الذي كان يراوده دائماً. وافق هولاكو، فقدم له الطوسي، الحلّ، نصحه بواحدة من أقسى وسائل القتل التي لا تريق دماء الخليفة وآل بيته على الأرض. فشهد العالم، خلال غزوة بغداد، أحصنة تدوس فوق أكياس الخيش حيث ربط المستعصم وأولاده فقضوا دون أن تسيل منهم نقطة دم واحدة. تجنّب هولاكو، بذلك، لعنة السماء، وحصل الطوسي على مرصده لمراقبتها. أما بغداد، فقُتل عشرات الآلاف من سكانها وأحرقت الآلاف من كتبها، وفرّ من بقي من سكانها هائمين، وانتهى بذلك عصر الخلافة العباسية لتظهر الدويلات والإمارات الصغيرة والمتحاربة في ما بينها. لم «يخلق» الطوسي إرادة احتلال بغداد عند هولاكو، ولم «ينظّر» لها، لكنّه سهّلها وهوّن من أمر نتائجها، والأهم أنه لم يرف له جفن وهو يساهم في تدمير عاصمة الخلافة والتنكيل بأهلها. أما عزمي بشارة، وهو العارف بمكانة سوريا ومركزية دورها وقرارها الحازم بالاستعداد للمعركة الكبرى مع العدو الإسرائيلي من أجل تحرير فلسطين، وطن بشارة المغصوب، فلم يتوانى عن التنظير لتدميرها. كان عزمي بشارة، قد أدان التحركات السلمية في البحرين بحجة أن من يقومون بها يمثلون لوناً مذهبياً واحداً، فأفتى بعدم إمكان الثورة في المجتمعات التعددية التكوين الطائفي والإتني... إلخ. لكنّه، إرضاءً لسادته ولولعه برغد العيش، زاغ عن حقيقة أن سوريا هي نموذج التعددية الأكبر، فلم ير فيها إلا طاغية يفتك بمساكين كل جريمتهم أنهم قرأوا «ترجمات» عزمي عن الديموقراطية! وكان له، بالمقابل، ما يوازي مرصد «مراغة»، حيث أهداه أمير الديموقراطية القطري «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات». لا يشبه الرجلان بعضهما، لكن، في مسيرتهما، بعض أوجه الشبه والتفارق في آن. ذلك أن الطوسي احتمى في قلعة واشتغل فيها على علومه بينما احتمى عزمي بأحلى العواصم ـ دمشق ـ وأكرم الناس معززاً مكرماً لا يعمل. والطوسي «اضطر» لترك القلعة بعد سقوطها الواقعي، بينما «اختار» عزمي الانتقال إلى حيث الرغد والاسترخاء منذ ما قبل المعركة. وبينما كان الطوسي على خلاف مع أهل بغداد، فإن عزمي كان الضيف الكبير لأهل الشام. والأهم من كل ذلك أن الطوسي طلب من مرصد «مراغة»، العلم، بينما طلب عزمي من المركز، الجاه والمال والسلطة. وما عدا المال والأحقاد، لم تتبين بعد الأسباب الأخرى التي تنقل مثقفاً من ضفة إلى أخرى، فتغير أفكار المثقف أمر يمكن فهمه ما لم يصل إلى حدود نقض مثقفيته نفسها. لكن الشرط الأخلاقي يبقى أقل ما يميز المثقف وإن المرء ليحار حين يقارن بين نصير الدين الطوسي وعزمي بشارة، لمعرفة من كان منهما أكثر تنكراً لشرف المثقفية.
أسقط المغول بغداد ومن ثم دمشق، ولم يكن ذلك بفضل الطوسي. وغزا الأميركيون بغداد ويعملون بالتحالف مع المغول الجدد من أجل تدمير دمشق. وليس ذلك بفضل عزمي بشارة. لكن التاريخ، إذ يستعد لتكرار ذاته بمهزلة، لن يشهد فقط سقوطاً للغزوة الحديثة، بل أقداماً لأبطال مناضلين تدوس رؤوس الخونة من دون الخوف من إراقة دمائهم لأنهم، ببساطة شديدة، فقدوها ذات «صحوة»!
* قيادي يساري ـــ لبنان