معايير كثيرة يضعها الأهالي لدى اختيار مدارس لأولادهم، منها المستوى التعليمي، اللغة، التربية الدينية، التربية العلمانية، الكلفة الدراسية، الموقع الجغرافي...إلا أن والد جمانة لم يكن يعنيه إلا معيار واحد: أن تكون المدرسة للفتيات فقط. برأيه «كلّ مدرسة قادرة على التعليم، لكنها ليست جميعها قادرة على التربية والحفاظ على الأولاد من الضياع». لذا بحث طويلاً ليجد ضالته في مدرسة غير مختلطة تكون قريبة من منزله.

هكذا، صارت جمانة تروح وتجيء إلى مدرستها، في وقت تراقب فيه أولاد حيها الفتيان والفتيات وهم يصعدون الباص معاً، ويتوجهون إلى مدارسهم. لا تبدو الصبية منزعجة من واقع انتسابها إلى مدرسة غير مختلطة، لكنها لا تخفي الكثير من الأسئلة التي تدور في رأسها: لمَ ممنوع على الفتية دخول مدرستنا؟ هل حرام أن يجتمع الفتيان والفتيات تحت سقف واحد أم هو عيب؟ فيما تأتي إجابة أهلها وإدارة مدرستها في عبارة واحدة «هيك أفضل» من دون شرح وتفسير.
الأسئلة نفسها يطرحها الفتيان أيضاً. أحمد ي. (16 عاماً) نشأ في مدرسة خاصة مختلطة. لكنه اليوم على أعتاب الدخول إلى مدرسة للبنين؛ فبسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع الأقساط «لا مهرب من المدرسة الرسمية، وهي للصبيان فقط». بين المدرستين يفضّل يوسف الأولى، حتى قبل أن يجرب الثانية. برأيه «وجود الفتيان والفتيات معاً يؤمن جواً مساعداً للدراسة». ويضيف أن «المدرسة هي نموذج صغير للمجتمع، فهل هناك مجتمع بلا إناث».
أما سارة ح. (17 عاماً) فيبدو كلامها متوافقاً مع زيّها الديني. فالفتاة الملتزمة ترى أن اختلاط الذكور والإناث «حرام، وقد يقود إلى مشاكل يصعب تداركها». لذا تبدي ارتياحها لأن مدرستها للفتيات فقط حيث يمكنها أن تتعلم بحرية وراحة.
جمانة وأحمد وسارة عيّنة من طلاب كثر ينتمون إلى مدارس غير مختلطة، منهم من يتكيّف مع الأمر ويتقبله، ومنهم من يعتبره نظاماً تربوياً متخلّفاً يجب التخلص منه. ويبدو أن الدولة اللبنانية أيضاً حائرة بين القرارين، بما أن مدارسها تنقسم أيضاً بين مختلطة وغير مختلطة.
ففي إحصاء لثانويات لبنان، تشكّل الثانويات غير المختلطة ما يقارب 20% من ثانويات لبنان، حيث يوجد أربعون ثانوية غير مختلطة، مقابل 213 ثانوية مختلطة. وتتوزّع المدارس الأربعون في المناطق المكتظة سكانياً كبيروت والضاحية الجنوبية وطرابلس، بينما ينعدم وجودها في القرى والأرياف. لكن اللافت في بيروت هي في كونها المحافظة الوحيدة التي تتفوق فيها أعداد ثانويات الجنس الواحد على أعداد الثانويات المختلطة بواقع 11 ثانوية مقابل 7، وهذا ما تعيده مصادر في وزارة التربية والتعليم إلى كون ثانويات بيروت هي من أوائل الثانويات التي أنشئت في لبنان وفق النظام القديم الذي كان ينصّ على فصل الجنسين، واستمرت الثانويات على حالها حتى يومنا هذا. يضاف إلى ذلك أعداد الطلاب الكبيرة في العاصمة، ما يسمح بإنشاء ثانويات متعددة وغير مختلطة. لكن المصادر نفسها تشير إلى تراجع في أرقام المدارس غير المختلطة، وذلك بسبب دمج الذكور والإناث في مدارس واحدة لخفض نفقات ومصاريف المباني والمعلمين والأجراء.
الأمر مختلف في المدارس الدينية، على اختلاف طوائفها. فهي أكثر تشدّداً والتزاماً في تطبيق الفصل بين الجنسين، ويعود ذلك لأسباب دينية بحتة. وتذكر بعض إدارات تلك المدارس أن عدم الاختلاط يُسهم في رفع مستوى الطلاب وحصر تركيزهم بأمور الدراسة دون أمور أخرى، ودليلها على ذلك نتائج طلابها وتفوقهم في الامتحانات الرسمية. وترفض إدارات عدد من المدارس الدينية الانتقادات الموجهة إليها من قبل تربويين ومختصين نفسيين يحمّلونها مسؤولية عزلة الطلاب وعدم انفتاحهم على الجنس الآخر، وترى أن مشكلة هؤلاء هي مع الدين قبل أن تكون مع المدارس الدينية «التي جاءت استجابة لفئة كبيرة من المجتمع ترغب في أن يتلقى أبناؤها تعليماً غير مختلط».
لكن الدين لم يعد السبب الوحيد لعدم الاختلاط في المدارس الخاصة، فكثير من المدارس باتت تلجأ إلى أسلوب الفصل بين الجنسين لتفادي المشاكل والشغب الذي يسببه بعض الشباب، كما حصل في إحدى مدارس بيروت أخيراً؛ إذ قرّرت إدارتها هذا العام أن تجعل الصفوف الثانوية للفتيات فقط. قرار تبرره الإدارة بأنه اتخذ للحفاظ على النظام. لكن التبرير لا يبدو مقنعاً لمحمد ع. الطالب في المدرسة ولا لعائلته «فكيف يمكن معاقبة جميع الطلاب بسبب فئة قليلة مشاغبة؟» يسأل والد محمد، واصفاً ما حصل بقرار «طرد جماعي للذكور من المدرسة، والأخطر أن هذا حصل ونحن على أبواب العام الدراسي، وهذا ما صعّب مهمتنا في إيجاد مدرسة جديدة والتأكد من مستواها الأكاديمي».
يجزم رئيس الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية الدكتور عدنان الأمين بأهمية التعليم المختلط وأفضليته، مشيراً إلى أنّ التعليم غير المختلط «قد ينشئ لدى طلاب مدارس الجنس الواحد تصورات وتخيلات خاطئة عن الجنس الآخر، ما يؤدي إلى علاقات غير صحية بين الجنسين في المستقبل». لكن الأمين يلفت في المقابل إلى أن «الفتيات قد يستفدن من عدم اختلاطهن بالشبان من ناحية تنمية الحس القيادي لديهنّ، وذلك لأنّ المدارس المختلطة في لبنان عادة ما تشهد قيادة ذكورية وتبعية نسائية». ورغم هذه الفائدة، يشدد الأمين على ضرورة وجود مدارس مختلطة لما تحمله من فوائد للطلاب، مستنداً في كلامه إلى الأبحاث والدراسات التي تؤكد هذا الأمر.