ضمن محترف «أرصفة زقاق»، شاهدنا في بيروت قبل أشهر عرض «ميديا (تحت الطلب)» للإسباني طوني كوتس الذي سيجول على برشلونة وروما. كسر هذا العرض كل ما يحمله الجمهور من ترسبات وكليشيهات حول الشخصية الأسطورية التي تتحدث عن فقدان الهوية وشغفها الذي أوداها إلى خيانة وطنها، ميديا حفيدة إله الشمس الموصوفة بسحرها وبطشها حتى لأطفالها الذين ولدوا من لحمها ودمها. لم يقدّم العرض أسطورة ميديا، بل نحت فضاءً معاصراً وقراءة جديدة تتكون من ثنائية جسد ميديا الأسطورة وجسد الممثلة المعاصر، معتمداً لغة الجسد. هذه الثنائية ذات الأزمنة المختلفة تنصهر في مكان واحد هو الجسد، فتلد غزارةً في المعاني السوسيولوجية، والسياسية، والإنسانية المنبثقة من علامات تنسجها الحركة، والنفَس، والنظرة، وشَعر المؤدية استر فريشا وعلاقة جسدها بالفضاء والملابس والأغراض والجمهور.
يلد جسد المؤدية معاني وتداعيات في الوقت الذي يقطع فيه جسد ميديا نسله عبر جسد المؤدية. تتواصل معنا بنظراتها، إلا أنها سرعان ما تفقد التواصل بالنظر وتغرق في عالم الحركة. هذا التأرجح بين التنافر والتزاوج في الجسد الواحد، يشكل علاقة ديناميكية قوية تكوّن أساساً متيناً في الدراماتورجيا التي تقوم على الجسد والمسرحة التي تتداخل فيها الأزمنة والشخصيات. تارةً نرى جسدها يتأرجح في جسد أنثوي معاصر، وطوراً نراه في جسد ميثولوجي حيواني. تخلع المؤدية ملابسها اليومية، ثم سرعان ما تغوص في مكان لعبي آخر كشخصية مسرحية. وتارةً تخاطب الجمهور كمؤدية لا كشخصية مسرحية لتقول لنا بأن «العرض هو كوميديا. اضحكوا، اضحكوا، اضحكوا». هذه المسرحة التي تكسر الإيهام تلعب دوراً أساسياً في التأكيد على ثنائية أزمنة المعاصرة والأسطورة، وعلى خلق مسافة للبحث لدى المُشاهد.
يرسم الجسد صوراً قوية ولحظات أخاذة تملأ العين بعلامات بصرية متراكمة تولّد في ذهن كل منّا معاني متضاربة تأخذنا الى عالم مليء بالأسئلة. يصبح العرض ساحة بحث ونقاش وجدال للمشاهد. يحيك كل منّا قراءة مختلفة للعرض نفسه. لم تأتِ هذه القراءات مختلفة بشكل اعتباطي، بل عمد كوتس ليكون العرض منتجاً للجدال ثم حاضناً له. تخبرنا استر في بداية العرض أنّها لن تمثل شخصية ميديا، ولن ترينا ما حصل في هذه الأسطورة، بل ستلعب الحوار الذي دار بينها وبين ميديا وبين كوتس، لافتة الى أنّ الأهمية تكمن في تخيلنا وتأملاتنا. ندرك منذ البداية أنّنا لسنا فقط متفرجين بل مشاركين أيضاً في صنع العرض في أذهاننا. وبما أنّ المشاركة هي سمة من سمات الممارسة الطقسية على عكس التلقي التي هي سمة من سمات المسرح، نتساءل إذا كنّا قد وقعنا في عالم غير محدد المعالم بين المسرحي والطقوسي الجديد. في الممارسة الطقوسية، نتشارك في ترداد الحركة في لحظة الطقس. أما خلال هذا العرض، فنتشارك في ولادة أفكار ديناميكية ولدت من عرض ذي ملامح طقوسية من حيث التعامل مع الجسد والأشكال الميثولوجية التي يصنعها الجسد، والمعاني الغريزية، والإيقاع. كما يسهم عدد الجمهور الضئيل في الحميمية التي نشعر بها في ممارسة الطقوس. تصبح مشاركتنا في ساحة البحث جزءاً من العرض بل مكملاً له. نتشارك في ما دار في خلج كل منّا حتى باتت الحلَقة التي نجلس فيها بعد العرض تشبه حلقات العلاج النفسي الجماعي. يربط كل منا ما اختبره خلال العرض بمخزونه الشخصي أو الفني أو السياسي. دار نقاش بدا خجولاً في بدايته إلا أنه سرعان ما احتدم وطال لساعتين بعد عرض مدته لا تتعدى نصف ساعة. دار النقاش حول الجسد كموقف سياسي أم كبعد جمالي طبيعي. وأكد كوتس على أهمية بناء التخيلي الجماعي وطاقة الجسد في إعادة كتابة صور محددة. في الوقت الذي اعتبر البعض أن اللغة المحكية فقدت معناها في ظل اللغة الجسدية، اعتبر البعض الآخر أنّها على العكس أضافت طبقة جديدة من تراكم المعنى. أكّدت استر أنّ الجمهور عنصر أساسي في العمل وتفاعله هام. يقاس هذا التفاعل ــ وفق ما قال كوتس ــ من خلال عملية تنفّس الجمهور، فالنفس يشكّل جسر التفاعل الخفي بين الجمهور واستر. كما دار نقاش حول ما إذا كان الرقص أساس العرض لأنه يرتكز على الحركة. أما في ما يتعلق بالجسد، فقد أكدت استر أنها لا تتحرك لتصل الى مراجع صور خارجية، بل إن الصور هي داخلية عضوية تحرك جسدها في أطر مختلفة. وتساءلت إحدى الحاضرات عما إذا كان الجسد هو تعبير عمن «أنا»، مشيرة الى نص المسرحية «أنا داخل هذا الجسد، أنا هو هذا الجسد». وكانت جلسة النقاش عبارة عن مشاركة فقط من دون الحاجة الى أجوبة حاسمة، إذ أكّد كوتس أنّه لن يجيب عن المعنى الذي قصده هو، بل يكتفي بالعرض الذي شكل طبقات مختلفة من المعاني وبنقاشها مع الحاضرين.