القاهرة - قبل أيام، كتب الناشر المصري محمد هاشم على الفايسبوك: «سأتقدّم بطلب للهجرة، فضجيج ماكينات رابطة صنّاع الطغاة لا يحتمل، وصريرها المزعج المستهين بالثورة كأعظم قيمة في حياة المصريين وأحلام الشعب بحكم مدني لا ديني ولا عسكري مستمرّ».
إعلان مؤسِّس «دار ميريت» التي وصفت مرةً بـ«بيت الثورة»، أثار عاصفة من التساؤلات عن الأسباب التي دفعته إلى اليأس والرغبة في المغادرة بعد سنوات من العمل الشاق لصالح قيم التنوير. هاشم أكّد أيضاً على حسابه أنّ «كابوس المنفى الاختياري سيتحول إلى واقع كونه أشرف ألف مرة من التوقيع باسم الثورة مع صبيان عبد المنعم أبو الفتوح، وأطياف الإرهاب السياسي باسم الدين، كأنّما كتب علينا الابتلاء بنخبة لا ترى ولا تتعلّم وتزيّن الأكاذيب وتعمل وفقاً لبوصلة لا تليق بالثورة وأحلام الفقراء». وتابع: «سيكون أشرف لي أيضاً رفض الانضمام إلى جوقة تأليه الفريق السيسي التي تقودها عصابة تسرق الكلمات والألحان بلا خجل، وتختزل الوطنية بإغلاق الفم، وتختصر الحلم في ما يجود به علينا المستبد العادل المحتمل».
في حديثه معنا، أكّد هاشم الذي أسس «دار ميريت» عام ١٩٩٨ أنّه لم يحسم خياره بشأن البلد الذي سيتوجه إليه، مشدداً على أنّه رفض عرضاً تلقاه من صديق مقيم في ألمانيا للحصول على منحة إقامة ضمن «برنامج للكتّاب المضطهدين». إذ رأى أنّ العرض لا يلائمه، فهو ليس كاتباً مضطهداً، فضلاً عن اعتقاده بأنّه لا يزال بإمكانه الصراخ في وجه كل الطغاة، سواء الذين يحكمون باسم الاستبداد الديني أو العسكري، كما أنّ هناك مضطهدين في العالم أولى منه بهذا العرض.
صاحب رواية «ملاعب مفتوحة» (2005) عبّر كذلك عن سخطه من نخبة مصرية منقسمة بين محاولات العمل على تأليه وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي واختزال المعركة مع قوى الإسلام السياسي. يقول: «احترامي لدور السيسي في مساندة ثورة الشعب في «30 يونيو» وتصدّيه لإرهاب الإسلام السياسي لا يساوي قبولي ببساطة لحكم ذي طابع عسكري وتنصيبه رئيساً تحت شعار «هو أو الخراب». كأنّ اليأس والعجز قد تمكّنا من هذا الشعب إلى الدرجة التي تدفعه إلى معاودة اختيار عسكري بعد ثورة اشتعلت للتخلّص من 60 عاماً من حكم العسكر... وكأنّها خرجت ضد الزراعيين أو البيطريين مثلاً». يوضح هاشم أنّ شعوراً بالحزن والألم انتابه لمشاركة عدد من «كبار كتّابنا ومثقّفينا في تصدير الحلّ العسكري للحكم كحل سحري وحيد، فمصر تستحق ما هو أعدل وأحسن»، داعياً ما تبقى من قوى مؤمنة بالثورة الى التوحد حول مرشح مدني واحد كي لا تخوض مصر مواجهة عبثية جديدة بين تحالف «ثوري» ديني ومدني بشارطة غبية، وبين مؤسسة عسكرية تملك ما يساير أحلام الشعب بالحرية والكرامة والعدل.
من ناحية أخرى، رأى الكثير من الكتّاب المتحلقين حول «دار ميريت» وهاشم شخصياً كأيقونة ثورية أنّ ما كتبه نوع من التعبير عن الإحباط مما يجري في مصر، لكنه ليس نهائياً. الكاتب علاء الديب اتصل بهاشم معاتباً، مؤكداً أنّ تخليه عن مكانه ترف لا يمكن تحمّله. فريق آخر من المتابعين رأى أنّ جزءاً من مشكلة هاشم كان مشاركته النشطة في التحضير لمؤتمر المثقفين (الأخبار 9/10/2013)، إذ تعرّض لانتقادات واسعة من كتّاب كانوا خارج برنامج المؤتمر. غير أنّ هاشم أكد لنا أنّه لا يعتبر المؤتمر فاشلاً، كما لا يعتبره جزءاً من صفقة مع الدولة: «لست الشخص الباحث عن منافع. الجميع يعرف الأثمان التي دفعتها شخصياً بسبب مواقفي منذ المشاركة في اعتصامات عام ٢٠٠٤ حتى تأسيس «جماعة أدباء وفنانين من أجل التغيير» التي واجهت استبداد مبارك وسلطته الثقافية»، مشيراً إلى أنّ «الرأي العام الثقافي يعرف انحيازاتي، وهؤلاء ساعدوني حين استهدفني المجلس العسكري خلال الحكم الانتقالي».
وأوضح أنّ الانتقادات التي جاءت ضد المؤتمر كان مصدرها كتاب محبطون، لكنه يرى أنّ المؤتمر نجح في تأكيد سلطة الثقافة المستقلة في مواجهة المؤسسة الرسمية، وهو مكسب ينبغي البناء عليه، بعيداً عن المزايدين. هذه المزايدات هي جزء من حالة القرف التي دفعت هاشم إلى التفكير في الهجرة قائلاً: «سأهاجر لأنّني لا أجد ما يعبّر عن روح الثورة العظيمة وسط مجموعات المصالح المتناحرة تلك».
وماذا عن مصير «ميريت» في حال هجرته؟ يجيب: «سيتولى إدارة «ميريت» أحد أبنائها من الكتّاب، وسأعمل وأتعاون معه وأنا خارج الحدود. ما كنت لأغادرها لولا هذا الكمّ الرهيب من القرف».
رغم كل شيء، لا ينظر هاشم إلى فكرة الهجرة كحل وحيد. يؤكد أنّه يواصل العمل مع شباب مثل نوارة نجم، ومحمد حسن، وفنان الغرافيتي عمار أبو بكر، ويستمر في البحث عن كيان جديد يحمل لواء الثورة، مؤكداً ثقته بمواهب حملت رايات الخيال مثل الشاعرين مايكل عادل ومصطفى ابراهيم وغيرهما من النخب الشابة التي بنت مجدها خارج الجهاز البيروقراطي للدولة.




دار طليعية

في أواخر السبعينيات، انضم محمد هاشم الى «حركة اليسار الوطني» في مصر وسُجن عام ١٩٨١ في نهاية عصر السادات. في 1998، أسّس «دار ميريت» التي نجحت بعد شهور قليلة في أن تكون واحدة من أبرز دور النشر في مصر والعالم العربي بسبب خطها الطليعي في الدفاع عن الأدب الجديد وحرية التعبير. تأسّست الدار بمشاركة عدد من المثقفين المصريين، على رأسهم الراحل إبراهيم منصور الناشط البارز في جيل الستينيات الذي عرف بحماسته ودعمه المتواصل لمشاريع النشر المستقل. ووصف المستعرب الشهير شتيفان فايدنر هاشم بأنّه أحد آباء الثورة المصرية.