بعد أسبوعين على اختطافها، تحررت إيفا غ. من زواجها القسري، ورغم انها لن تعود مباشرة إلى بيتها إلا ان اهلها يشعرون بفرحة عارمة. لا جدال في الأمر. فالخبر يستحق التهليل، أو لنقل بعضه. فتتمة الخبر لا أحد قادر على التهليل لها، حتى أهلها. فهم يعلمون، ونحن أيضاً، أن إيفا عادت بلا طفولتها. ضحية، مغتصبة « تحت تأثير كلام معسول»، تقول المحامية بشرى الخليل.
أمس، في مفرزة التحري، وفي الوقت الذي كان فيه الوالد حسين غ. يستقبل المهنئين، كانت إيفا تكمل كابوسها. كانت «مرعوبة وخائفة كالتي استيقظت لتوها من منام مزعج»، تقول الخليل. لم يكن ممكناً في تلك اللحظات الحرجة سؤالها عمّا عانته خلال تلك الأيام، وقد حرص المحققون على «أخذ اللازم منها الذي يخدم التحقيق في القضية»، تتابع. أما ما عدا ذلك، فلم تطلب العائلة إلا استيضاحاً واحداً: هل اغتصبت إيفا؟ في التفاصيل التي قالتها إيفا لمندوبة مصلحة الأحداث، تثبّتت الأم من حادثة اغتصاب ابنتها. روت الصغيرة كيف تم هذا الأمر. تقول إنه «قال لها إنه يحبها، وقالت لنا الكثير من الكلمات المعسولة التي قالها لها ليفعل ما فعله»، تقول المحامية. وعندما سألوها « كيف تأكدت من حبّه، خصوصاً أنه كان يحب فتاة قبل شهرين وخطفها بنية الزواج أيضاً؟ قالت إنه لم يكن يحبها وخطفها هيك». هذا ما قالته الصغيرة. في مثل عمرها يمكن «إغراؤها بلوح شوكولا ويفعل الجاني ما يفعله، وقد مرّت قضايا من هذا النوع كثيراً»، تقول الخليل. وإيفا في لحظة اغتصابها، كانت تشبه هؤلاء. اغتصبت بكلمة جميلة وبلوح شوكولا ربما. هي قالت ذلك. وقالت أيضاً إنها في اليوم نفسه الذي اختطفت فيه تزوجت. في الوقت الذي كان الخاطف حسن م. يفاوض والدها حسين غ. على الديون التي في ذمته كشرط لتحرير الطفلة الرهينة.
عادت إيفا. لكن، ماذا عن تفاصيل العودة؟ يقول مصدر في مفرزة تحري الضاحية «أجريت عمليات دهم لعدد من الأماكن التي بلغنا عنها ولكننا لم نصل إلى مكان الطفلة، فعملنا على أسلوب آخر من التحري». وهنا «صار في وساطات وتدخلات معنا، وقال لنا الوسطاء إنهم سيرجعونها وأرجعوها».
وفي فترة الانتظار، بدأ العمل على فرضية المكان الذي ستعود إليه إيفا: هل تعود إلى منزل والديها؟ أم «زوجها»؟ وفي هذا الإطار، قامت الخليل بالتواصل مع نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان والمستشار الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، «وقد استحصلنا على فتوى أن هذا الزواج باطل وأنها ستعود إلى منزل ذويها مع انتهاء التحقيقات وصدور إشارة المحامي العام الاستئنافي». وبحسب المصدر الأمني، «يفترض أن يكون هناك مستند خطي بالفتوى قبل صدور الإشارة وتسليم إيفا». وفي وقتٍ لاحق، صدر المستند الخطي، ليتأخر صدور إشارة المحامي العام الاستئنافي حتى وقتٍ متأخر من ليل أمس، وذلك بسبب «بعض التباين بين إفادتي الفتاة وأمها في شأن حضور الخاطف حسن م. إلى منزل العائلة في اليوم نفسه الذي اختطفت فيه إيفا، ففي الوقت الذي قالت فيه الأم إنه حضر، نفت الفتاة أن يكون قد حصل هذا الأمر»، تقول المحامية، مشيرة إلى فرضية ان تكون «البنت مهددة من الخاطف». وثمة فرضية أخرى أن تكون هذه «محاولة لإخراج الخاطف من القضية وتحويلها إلى قضية خطيفة بقصد الزواج وليس خطفاً على خلفية النزاع المالي».
وبحسب معلومات أمنية لـ«الأخبار» فإن إشارة المحامي العام الاستئنافي قضت بوجوب إبقاء ايفا في مكان آمن وخاص بالأحداث ريثما يتم تسوية الملف، خصوصاً أن الفتاة تتخوف من ردة فعل والدها الغاضبة. لكن، مهلاً، لماذا عادت إيفا وحيدة؟ وبهذه الطريقة؟ وخاطفوها؟ يجيب المصدر الأمني «فعلنا ذلك خوفاً عليها من الأذى، أما المتورطون فهم الآن متوارون عن الأنظار، ونعمل على ملاحقتهم بناءً على إشارة من القضاء».
إيفا عادت «مكوبسة». هذه الطفلة، التي يفترض أن تعالج الآن من آثار «الصدمة النفسية»، كما تقول الخليل، هي نفسها التي خرجت إلينا أول من أمس عبر برنامج «للنشر» على تلفزيون «الجديد» لتُسأل عن الحب والزواج وعن ليلتها الأولى. هذا البرنامج الذي حاول جاهداً إلصاق إيفا بوظيفتها الجديدة وتلميع صورة الخاطف وتحميلها صورة «الوالد البديل». إيفا في إطلالتها على الهواء، ظهرت بيدين تعقدان على الخصر «وزرة»، هكذا اختار البداية معدّ تقرير «إيفا الصغيرة» ضمن برنامج «للنشر». من المطبخ، بدأت كاميرا المعدّ مع إيفا، في دلالة إلى الصورة التي صارت عليها الطفلة التي لم تبلغ بعد الثالثة عشرة من عمرها. صورة المرأة وربة المنزل «السعيدة» التي تحسن القيام بواجباتها المنزلية. من هناك تحديداً، خرجت إيفا إلى العلن، بعد أسبوعين على اختطافها. طفلة تتقمّص دور امرأة تقوم بواجبات الضيافة في منزل خاطفها الذي أصرّ التقرير التلفزيوني على إلغاء صفته كخاطف ومرتكب جرم من خلال الإضاءة على علاقته الحميمة مع «إيفا التي صارت مثل ابنتي». صورتان «مقززتان» ــ بحسب بشرى الخليل، محامية عائلة الفتاة المخطوفة غ. ــ كادتا تحرفان القضية عن مسارها الحقيقي. فطيلة 23 دقيقة، ظهرت خلالها إيفا غ. وخاطفها حسن م. في مواجهة والدها حسين غ. الذي كان موجوداً في استديو البرنامج، كان المطلوب « فضّ القضية على طريقة صلح العشائر»، تقول الخليل. هكذا، انتفى فعل الخطف وجريمة الاغتصاب والتحريض عليها، واستحال الموضوع سؤالاً مقززاً، هو الآخر، مطالب الوالد بالإجابة عنه «إذا تمت العلاقة الزوجية كاملة بين بنتك وحسين م . بعدك مصرّ ترجّعها؟». إلى هنا، وصلت حدود القضية في البرنامج، التي كانت تكاليفها باهظة على طفولة إيفا. وهي القضية التي من الممكن أن تصل عقوبتها في القضاء إلى حدود الأشغال الشاقة المؤبدة، حصرها مقدّم البرنامج «بتقديم الإثارة للمشاهدين»، يقول أستاذ علم الاجتماع التربوي وعلم النفس الاجتماعي الدكتور طلال عتريسي.
عتريسي كما الذين شاهدوا إيفا في «للنشر» يسألون عن «الرسالة التي أرادها مقدم البرنامج من وراء هذه الفقرة؟ ثم، ما الذي استنتجه المشاهدون من العرض أصلاً؟». في المبدأ، «ليس هناك رسالة»، يجزم عتريسي. وفي المبدأ أيضاً، يفترض أن تكون وظيفة العرض في قضية كقضية إيفا بالذات «إدانة الفعل الذي أوصل الصغيرة إلى هنا». بتعبير أوضح، إدانة أصل العمل «الذي يبدأ بعملية الخطف ولا ينتهي بالإكراه على الزواج. فهذه الفتاة مظلومة بغض النظر عن آرائها التي لا يعتمد عليها أصلاً لكونها قاصراً». وهنا المخالفة الأولى الفاضحة. مخالفة تعيدنا «إلى المشكلة الحقيقية لوظيفة التلفزيون التي لم تعد تراع الخصوصية ولا القيم ولا المظلومية». وهذا ما ظهر في صورة إيفا الجديدة. أما المخالفة الأخرى، التي لا تقل فظاظة عن الأولى، فهي عندما يصبح التعامل مع المجرم على أنه «شخص عادي، نتعامل معه كما لو أن كل الناس متساوون». وفي قصة إيفا «ليس الكل متساوين». ثمة خاطف ومرتكب جرم وطفلة مخطوفة ومغتصبة، بغض النظر عن آرائها، وقانون يفترض أن يكون «فوق الكل». فلنبدأ بالخطأ الأول الذي قال عنه عتريسي، وهو البناء على كلام إيفا. ففي حالتها، لا يمكن «بأي شكل من الأشكال البناء على كلامها. فما حصل أمر غير مقبول في حالة فتاة بهذا العمر وبظروفها وبملابسات قصتها غير الطبيعية، حتى طريقة نقلها إلى بيت الزوجية غير طبيعية». هكذا، لم يكن مطلوباً من الطفلة طيلة فترة العرض سوى الإدلاء بكلمات حفظتها غيباً: «أنا أحبه» و«تزوجت». حفظتها لأنها «تلعثمت في الإجابة عن أسئلة كثيرة طرحها المقدم ولم تعرف كيف تجيب عنها»، تقول المحامية بشرى الخليل. أما الحادثة التي جعلت الكثيرين يوقنون بأن إيفا تقول ما لُقّنت إياه، فهي عندما انفجرت الصغيرة في البكاء لحظة توجه والدها بالحديث إليها وقالت «مشتاقة لبابا». كان بكاؤها خارج السياق. أو بمعنى أوضح، خروجاً عن النص. والدليل ما قاله الخاطف بلا إرادة «نزعتيها، هلق نزعتيها، لا لا». ليست هذه العبارة الوحيدة التي جعلت الخليل وعائلة غ. يعوّلان على فرضية «الضغط على الفتاة». وفي هذا الإطار، تتحدث الخليل عن «مجموعة من المؤثرات التي ندرسها في علم النفس الجنائي، ويمكن أن تريها في عيني إيفا المتحجّرتين وقلقها والتصاق الخاطف بها في محاولة لإبقائها تحت سيطرته، كما أن نظراتها توحي بأن أمامها من يلقّنها الذي ستقوله». كل هذه «المؤثرات» تؤخذ في الاعتبار.
أما الخطأ الآخر، ففي خروج الخاطف بأناقته الكاملة، وكأنه لم يرتكب جرماً، على طريقة خروج «أبو إبراهيم» الذي احتجز حرية 11 إنساناً. كان الرجل يكمل جرمه، على عين القانون. يقول رأيه في الخطف «الذي لا علاقة لي به، فهي التي خطفت ابني وأنا ما أفعله الآن هو أنني أحاول إصلاح العائلتين. ولو كنت أريد الخطف على أساس المشكلة المالية، لخطفت ابنه مهدي لأنه ليس من عاداتنا سبي النساء». هذا الرجل الذي خرج «من عائلة معروفة بمثقفيها في البقاع وبيروت»، كان يكثر التهديد العلني لوالد الطفلة المخطوفة: «خلّيه يروق ويهدّي أعصابه ويشتغل على الصلح، وإذا ما تم الإصلاح رح إفضح أمور كتيرة».
أما الخطأ الثالث، فهو محاولة التسليم على قاعدة أن «الجرة انكسرت ولا يمكن لملمة المياه». وتظهر في «نصف الرأي» الديني الذي اقتبسه البرنامج عن الشيخ حسن شاهين الذي يقول باعتبار «زواجها شرعياً إذا كانت تحسن التصرف ومعها حرية الاختيار، خصوصاً أن عمر البلوغ الشرعي هو 9 سنوات». يضاف الى كل ذلك السؤال المتكرر للوالد عن فائدة عودة ابنته إن كانت «العلاقة الزوجية قد تمت». تلك المحاولة التي دعّمت بأسئلة أخرى للفتاة من نوع «هل عشت مع حسين في البنت نفسه؟ في الغرفة نفسها؟». كان ينقص السؤال الأوضح «هل نمت معه؟» أو «متى فضّ بكارتك؟». وكان كل شيء وارداً في «الفقرة التي لم تُدن الفعل الذي قام به الخاطف».
إنها مجرد طفلة. هذه الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن المساومة عليها مهما تعدّدت الفتاوى والآراء: زواج الطفلة باطل، وفعل زواج كهذا يسمى اغتصاباً، والمغتصبون فعلوا فعلتهم بالخطف المسلّح. هل قضية من هذا النوع صعبة على فهم البعض؟