استخدم الرئيس بشار الأسد موقف سوريا من المسألة الوطنية وتماهي قيادتها مع شعبها في الموقف من إسرائيل لمنع انتقال عدوى الحراك الشعبي إليها. لكن الجميع كان يعرف أن في سوريا ملفات كثيرة اجتماعية واقتصادية وسياسية كافية لاندلاع ثورة، وأن المطلوب الشروع في ورشة إصلاحات عميقة. توقفنا في «الأخبار» عند الأمر طويلاً. وعند اندلاع الاحتجاجات، لجأنا في «الأخبار»، من خلال مقالات موقّعة باسم أشخاص من أسرة «الأخبار» أو مقالات في صفحة الرأي، إلى التشديد على أن سوريا معنية، دولة وشعباً، بحركة إصلاحية كبيرة، وأن الرئيس الأسد يملك رصيداً في الموقف من إسرائيل يتيح له القيام بهذه العملية، وأنه ليس محل إدانة شاملة من الشعب السوري.
ورغم أن الخلفية كانت واضحة في كل ما كُتب، إلا أن ردود الفعل من جانب الحكم في سوريا كانت قاسية. لم يجر التمييز بين الموقف المساند لعملية إصلاحية شاملة ومن يريد لسوريا أن تسقط.
مع تطور الأحداث، انتقل الانقسام حول ما يجري في سوريا إلى قلب لبنان بقوة. لم يكن أحد يحتاج إلى كثير من الشرح لتمييز مواقف القوى السياسية والتيارات الشعبية في لبنان إزاء ما يحصل. وكان الأمر سهلاً جداً على من يقف في زاوية واحدة، سواء الذين يتبنّون خيار المقاومة ويرون في حمايته أولولية مطلقة لا تتقدم عليها أي أولوية، وهؤلاء وقفوا إلى جانب النظام في سوريا باعتبار ما يحصل مؤامرة خارجية، من دون إغفال تبنيهم لحركة إصلاحية يقودها الرئيس الأسد بنفسه، أو خصوم سوريا وخصوم المقاومة الذين قالوا إن الأمر يتطلب سقوط النظام كلياً. وبدا المشهد اللبناني، كما المشهد العربي، في حالة انقسام حقيقي، وخصوصاً أن التطورات في البحرين وليبيا واليمن بدأت ترخي بظلها على الحدث السوري وعلى الموقف منه. ولم يكن الوقت قد أتاح الدعوة إلى مراجعة الموقف من الذي يجري، والتمييز بين حراك لم يكن بمقدور أحد التدخل فيه (تونس ومصر) وحراك سارع الغرب بقيادة أميركا والعرب من جماعة السعودية إلى الإمساك به بغية جعله ينتظم في سياق مصالح هذه الأطراف لا في سياق مصالح شعوب هذه الدول. وعمّق ذلك من الأزمة ومن النقاش ومن الموقف حيال ما يجري.
في هذه الأثناء، كان قمع السلطات في سوريا للمتظاهرين يأخذ بعداً إنسانياً مقلقاً. عمليات القتل والاعتقال تتوسع، والسجال بشأن صدقية ما تعلنه السلطات السورية بشأن وجود مجموعات مخربة متصلة بالخارج المعادي انعكس مزيداً من الانقسام. وصار الجميع، بمن فيهم نحن، أسرى الأحداث اليومية. وكان أن اتُّهمت «الأخبار» بأنها جزء من جوقة إعلامية (تديرها وتموّلها قطر) تعمل على إسقاط النظام في سوريا. لجأت الحكومة السورية إلى عملية منع متقطعة لبعض النسخ من «الأخبار». وكان الجميع يشير إلى كل شيء في الجريدة، مع توقّف خاص عند المقالات اليومية للزميل خالد صاغية، التي كان هو يكتبها، لا على وقع الأحداث فقط، بل وفق آلية واستراتيجية اتّبعتها إدارة التحرير، تقوم على فكرة حاول خالد تكريسها كمعادلة مهنية لإدارة ملف الأحداث في سوريا.
كان خالد صريحاً وواضحاً في اعتبار ما يجري في سوريا ثورة شعبية مشروعة ضد نظام مستبد، وأن «الأخبار» التي وقفت إلى جانب ما حصل في بقية البلدان العربية، لا يمكنها التوقف عند بوابة دمشق. ومع إدراكه حساسية الموقف بالنسبة إلى «الأخبار»، لكون الأسد ونظامه يدعمان المقاومة، قال إنه يمكن العمل بين سقفين، الأدنى فيهما يقول بإدانة أعمال القمع والتعاطف مع مطالب الشعب السوري وعدم الترويج لخطاب النظام، والأعلى فيهما يقف عند حدود المطالب الإصلاحية ولا يذهب صوب تبنّي الدعوة إلى تغيير النظام أو إسقاطه...
استمر الجدال في هذه النقطة أياماً طويلة، إلى أن حصل صدام هو الأعنف، عندما قررت السلطات السورية منع دخول «الأخبار» نهائياً إلى الأراضي السورية، وهو قرار أرفق بحملة سياسية تولّاها أركان في النظام بمساعدة حلفاء لبنانيين لهم، ضد «الأخبار» وضد كتاب رئيسيين فيها أبرزهم خالد. ثم أطلقت الاستخبارات السورية العنان لبعض المرتزقة كي يتولّوا حملة شخصية ضد زملاء بارزين في «الأخبار»، وفي مقدمهم خالد صاغية، والحديث عنه بطريقة مقزّزة. وترافق ذلك مع ضغوط ذات طابع معنوي، تستهدف حثّ «الأخبار» على الوقوف في زاوية أخرى من المشهد.
وسط هذا الجدال، تطور الانقسام داخل هيئة التحرير المركزية بشأن أي طريقة يمكن اتّباعها في مواجهة الحدث السوري، وكيف تدير «الأخبار» نفسها وسط هذه الأزمة التي جعلتها مثل الآخرين في أزمة عامة وخاصة. وفي لحظة الذروة من الضغوط المتنوعة والانقسام الداخلي، قررنا وقف الكتابة عن الحدث السوري. شمل هذا القرار رئيس التحرير (إبراهيم الأمين) ونائبه (خالد صاغية) ومديرَي التحرير (بيار أبي صعب وإيلي شلهوب) ومسؤول قسم العربيات والدوليات (بشير البكر).
وترافق هذا التوقف مع فتح نقاش بشأن كيفية التصرف. وكان الأمر يجري وسط أجواء معقدة، تتداخل فيها الضغوط السياسية مع الضغوط الشخصية، مع مناخ متوتر على كل الصعد. وليس خافياً على أحد هنا أن ناشر «الأخبار» الدكتور حسن خليل وآخرين من المساهمين، يقفون سياسياً في الجانب الأقرب إلى وجهة النظر الرافضة فكرة إسقاط النظام في سوريا. لا يعني هذا أن هؤلاء ضد مطالب الشعب السوري، أو أنهم يريدون السكوت على المظالم وعمليات القمع، لكنهم يعتقدون أن في مقدور «الأخبار» التعبير عن الأمر بطريقة تختلف عمّا هو متّبع من قبل أعضاء هيئة التحرير، ومن قبل الزميل خالد صاغية على وجه التحديد.
وكان الزميل خالد يقف عند زاوية يناقش فيها الأمر من زاوية أن «الأخبار» قد تكون عرضة لنسف هويتها، أو الأرضية التي وقفت عليها منذ انطلاقتها، إن هي تجاهلت الموقف المؤيّد لثورة الشعب السوري، وهو الأمر الذي لم يكن محل إجماع حقيقي داخل إدارة التحرير.
بعد مدة، سافر الزميل خالد في إجازة شخصية، واتفقنا على أن نستغل هذه الإجازة لإعادة النظر في الأمر كله، وفي تحديد آلية للعمل في الفترة اللاحقة تكون فيها الأمور أقرب إلى صياغة جديدة. ولكن خالد لم يكن يخفي في هذه الأثناء أنه بدأ يشعر بمشكلة مزدوجة: شعر بأن موقفه وطريقة مقاربته الأزمة السورية قد تحولت عبئاً على «الأخبار»، وشعر في الوقت نفسه بأن اعتماد «الأخبار» سياسة مهادنة مع النظام في دمشق يحوّلها إلى عبء عليه هو. وقال بصراحة إنه لا يريد أن يكون عبئاً على أحد، كما لا يريد أن تكون المؤسسة عبئاً أخلاقياً وسياسياً ومهنياً عليه. ولذلك يجد أن الخروج هو الحل الأفضل، وأن هذا هو التوقيت المناسب.
على أثر هذا الموقف، انطلقت مناقشات ومبادرات، وصيغت أفكار وأوراق جرى تبادلها. وبعد عودة خالد من إجازته، استؤنفت اللقاءات والمناقشات، وطرحت تسويات وتصورات هدفت من جانب الإدارة إلى بقاء خالد في الجريدة. لكنه كان يشعر يوماً بعد يوم أن كل ما عرض عليه لا يمنحه الثقة الكفيلة له بأن يستمر في موقعه الرئيسي والفاعل كشريك في القرار، ولا يمنحه الثقة الكافية للتعبير بحرية عن رأيه في ما يجري في سوريا. وعند هذه النقطة، كان الخلاف يتركز يوماً بعد يوم على المقاربة السياسية والمهنية للأزمة السورية. وكان خالد يشعر بأن ما يقدم له من أفكار وعروض ليس من النوع الذي يقنعه بأن يتراجع عن فكرته في الخروج، إلى أن حصل لقاء أخير وتبادل أخير للرسائل جعلا خالد يقول إن «الأخبار» تتجه لتكون جريدة غير تلك التي يعرفها والتي أعطاها 5 سنوات كاملة من حياته، وإنه مصمّم على الخروج. فقدّم استقالة خطية رسمية، ملحّاً على قبولها وتنفيذها إجرائياً.
طبعاً، خروج خالد من «الأخبار» ليس أمراً عابراً أو عادياً. ليس لأن الرجل من المؤسّسين فحسب، أو لكونه يشغل منصب نائب رئيس التحرير، وهو الذي تولّى عملياً إدارة العملية اليومية منذ وفاة جوزف سماحة حتى إجازته الأخيرة، بل لكون خالد يقبض في يده على جانب من روح «الأخبار»، وهو واحد من أسرارها الرائعة، وكان يملك بيده الشريط اللاصق لكل التنوع القائم في الجريدة. وهو إن غادر تاركاً الكثير على طاولات الزملاء وبين غرف المؤسسة، إلا أن التحدي الأبرز عند ما بقي هو في حفظ الفكرة التي دافع عنها خالد بأناقة ورقيّ، وسعى بكل ما يملك من قدرات لأن يجعل «الأخبار» طبقاً يومياً مفضّلاً عند كثيرين يعيشون الآن، كما نحن، مرارة الطلاق، على أمل أن يكون عند خالد بعض من أسلوب أستاذنا الكبير جوزف الذي كان يغادر ويبتعد ليعود فجأة ويحتل المكان.