ما أن مضت ساعة واحدة على الاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره السوري بشار الاسد، حتى كشف الكرملين نبأ الاتصال. ابتسم الاسد. مجرد الاعلان الروسي حمل دلالات كبيرة. تعمّد بوتين المجاهرة بالمكالمة ليقول انه الى جانب سورية، او على الارجح الى جانب الأسد شخصياً.
تعمّد الطرفان الابقاء على سرية الاتصال الذي جاء بمبادرة من بوتين. هكذا تكون الرسائل المشفرة اكثر وقعاً من التصريحات المعلنة.
كل ما تم التصريح عنه في الاتصال يخدم الاسد: أولاً ان «الشعب السوري هو من يقرر مصيره». اذاً، روسيا مستمرة في تشكيل الدرع الدبلوماسي والعسكري. ممنوع الضغط الخارجي. ثانياً ان «الحكومة السورية مشكورة في ما تفعله لانجاح جنيف 2». اذاً، الكرة في ملعب الاخرين من معارضة ومسلحين وداعميهم. ثالثاً «ان الارهاب والتطرف هما لب المشكلة»، وبالتالي فان موسكو ستستمر في الضغط على اميركا لتضغط على حلفائها بغية وقف امداد الارهابيين بالمال والسلاح.
في بداية الازمة السورية، كان الروس يتفادون اللقاءات العلنية مع مسؤولين سوريين. كانت الاوضاع ضبابية ومحرجة لموسكو. الآن يعرفون تماماً هوامش السياسة ووضع الجبهة الداخلية. يعرفون، ايضاً، ان الاميركي قابل بما يجري. او مضطر.
ما أن مضى يومان على الاتصال المباشر بين الرئيسين، وهو على الارجح ليس الوحيد وانما الوحيد المعلن، حتى بدأ الاعلان عن سقوط قارة. اتخذ القرار بمعركة القلمون. في معارك كبيرة كهذه، على مساحة هائلة تضم نحو مليون شخص و19 قرية ومنطقة وبلدة، لا بد من قرار سياسي. في معارك كهذه ضد مجموعات كبيرة ومتنوعة من المقاتلين العازمين على اسقاط النظام بالقوة لا بد من قرار عسكري كبير. اتخذ القرار.
الباقي تحدده الخطط العسكرية. وفي الخطط تطورات كبيرة. بعض ممن كانوا يقاتلون الجيش السوري صاروا يقدّمون له معلومات واحداثيات. حصل هذا. وُجِّهَت ضربة الى قيادة «لواء التوحيد» في مهين. الاغراءات المالية وغيرها تهيّئ لمفاجآت. لكن الطرف الآخر يعد هو الآخر بمفاجآت ضد السلطة السورية وحلفائها، والحشد يبلغ في هذه المرحلة ذروته. «من الصعب ان تقبل السعودية بالخسارة»، يقول احد دبلوماسيي الجامعة العربية.
ربما اتخذ القرار ايضاً بالنسبة الى حلب وريفها. هناك، سياسة القضم انجع حالياً، تماماً كما حصل في ريف دمشق. ستتغير المعادلة، ربما، بعد ان يقتنع التركي نهائياً بأن قرار الاميركي والاطلسي هو التسوية.
يبدو انه بات يقتنع. الحركة التركية صوب العراق وايران لافتة. هل كان وزير الخارجية التركي احمد داوود اوغلو يستطيع القيام بزيارة ناجحة الى بغداد والنجف والمرجعيات الشيعية من دون غطاء ايراني؟ ألم يمهد وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف لهذه الزيارة حين زار هو نفسه انقرة قبل فترة؟ لماذا حصلت الزيارة بعد زيارة المالكي الى واشنطن؟ هل ثمة تقاطع ايراني ــــ اميركي في شأن العراق؟ الاكيد نعم.
ذهب داوود اوغلو الى العراق بشروط ايران. هكذا يبدو مما تسرّب من الغرف المغلقة. كانت شروط المياه والنفط وسوريا حاضرة بقوة. لوحظ، بعد الزيارة مباشرة، ان رئيس اقليم كردستان مسعود بارازاني ذهب الى معاقل اكراد تركيا في ديار بكر. لم يكن دخان الهجوم الذي نفذه مقاتلو حزب العمال الكردستاني ضد الجيش والشرطة التركيين قد تبدد بعد. رجب طيب اردوغان في حاجة في زيارة بارازاني. فشل في سوريا ومع كردها.
ما عادت تركيا قادرة على الاستمرار في مغامرات «مهندس سياسة صفر مشاكل» داوود اوغلو. كادت تصبح في وضع «صفر صديق» في كل المنطقة. في مصر سعيٌ لطرد السفير التركي بسبب وقوف انقرة ضد الحكم الحالي ودعمها للاخوان المسلمين. في العراق كان المالكي قد اتهم انقرة مراراً بالتورط بالارهاب. في سوريا، الكرد يعلنون اقامة ادارة مدنية. مع اسرائيل العلاقات ضبابية رغم استمرار الاتفاقيات العسكرية الهائلة. لا شك في ان داوود اوغلو بات على شفير الاسئلة والمصير.
خطوة كرد سوريا سبقت الاتصال الهاتفي بين بوتين والاسد. يبدو انها تزعج خصوم الاسد بقوة. تركيا والسفير الاميركي السابق في دمشق روبرت فورد (هو ايضا قد يرحل) ومسعود بارازاني هاجموا بشدة الخطوة. قالوا في تصريحات، متتالية في الزمن متوافقة في المضمون، ان الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري هو سبب ما حصل وانه حليف النظام. ربما يبتسم الاسد. ما سرّ كل هذه التحولات؟
إيران القضية
فتش مرة ثانية وثالثة ومليون عن ايران. مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو يقول «ان ايران، ومنذ مجيء الرئيس حسن روحاني، أبطأت انشطتها النووية وخصوصا التخصيب وهذا تطور ايجابي». يتنفس الرئيس الاميركي باراك اوباما الصعداء. جاءه من المنظمة ما يساعده على اقناع الكونغرس بتخفيض العقوبات عن ايران. ينتفض رئيس الوزارء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو. يكتشف ان الكونغرس الاميركي نفسه، اي وكر اللوبي اليهودي المؤيد لاسرائيل، صار اقرب الى نظرية اوباما. تتعلق اسرائيل بأهداب ضيف فرنسي تريده بديلاً موقتاً للاميركيين. يصدق الرئيس فرانسوا هولاند ذلك. لا بأس من الاوهام في هذه الفترة.
روسيا المندفعة
ثم فتش عن روسيا. وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان سيرغي لافروف وسيرغي شويغو زارا مصر. هذا حدث كبير لدولة كانت غارقة حتى الاذنين في التحالف مع الاميركيين والتغطية على اسرائيل في عهدي انور السادات وحسني مبارك. ليس الامر عابراً، رغم ان من السابق لاوانه القول ان القاهرة ستغيّر مجرى سياستها الخارجية.
الفريق اول عبد الفتاح السيسي ليس رجلاً عادياً في التاريخ الحديث لمصر. يذكر مسؤول ناصري كبير في القاهرة كيف استدعاه السيسي ليلاً مع رفاق له قبيل اطاحة الرئيس الاخواني محمد مرسي. تحدث الرجل ساعة وربع الساعة عن مصر الجديدة وعن بعث روح عبد الناصر وعن ضرورة استقلال القرار المصري. قال ان الاخوان سيخربون مصر ويكبلوننا مجددا مع اسرائيل واميركا. ذهب الوفد الناصري في اليوم التالي للقاء الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل بدعوة منه. كان هيكل حريصاً على معرفة كل التفاصيل: كيف يتحدث السيسي؟ هل ينظر في عيونكم؟ هل يرفع يده وهو يتحدث؟ ماذا قال عن مرسي؟ ماذا قال عن عبد الناصر؟ لم تمض ايام حتى كان السيسي ومعه هيكل وصحب من الناصريين وغيرهم على ضريح الزعيم.
لا تريد مصر عبد الفتاح السيسي ان تغرق بين الكماشة المالية الخليجية، وتحديدا السعودية، وبين الضغط الغربي. لا بد من تنويع المصادر. روسيا جاهزة. بوتين يجد في الامر فرصة هائلة لدخول المعاقل الاميركية. ثمة من يقلق على مستقبل السيسي. الخطر يزداد على الرجل... ولكن شعبيته ايضاً.
لبنان الضحية؟
العالم كله يذهب صوب روسيا وايران. وحده لبنان يعاكس مجرى الرياح. يذهب الرئيس ميشال سليمان صوب السعودية. يفاجئه السعوديون بحضور رئيس الوزراء السابق سعد الحريري. يرتبك. لو لم يرتبك لكان أجلس الحريري بعيدا، ووضع الى جانبه وفده التقني. جلس الوفد بعيداً فلم يسمع شيئاً مما كان الملك يقوله. صوت الملك عبدالله هو بالاساس خافت ووضعه الصحي يتراجع. اللهجة المحلية غريبة قليلا على الزوار. ومع ذلك فما تم سماعه يكفي للاستنتاج بأن الملك حين استقبل سليمان في المرة الماضية كان يستخدم صفات قاسية ضد سوريا وايران وحزب الله، تحدث هذه المرة عن الاعتدال وعن «جنيف 2» وعن التسويات السياسية. ربما تأثير وزير الخارجية الاميركي جون كيري كان لا يزال حاضرا.
حول الرئيس سليمان مستشارون امضوا اعمارهم في فن الدبلوماسية الراقية والمفيدة. في مقدمهم السفير المخضرم ناجي ابو عاصي. هل ثمة من يسمع فعلاً نصحهم؟ ربما، ولكن الاكيد لو ان سليمان اكمل الرحلة بعد السعودية الى ايران لما كان سمع كلاماً يفيد بانه بات جزءاً من جبهة ضد جبهة. كيف سيتم تخريج الزيارة محلياً؟ لننتظر خطاب الاستقلال.
لم تقصد السعودية التقليل من شأن سليمان. على العكس تماماً، قابلته بحفاوة. هي ارادت فقط بعث رسائل عبر الحريري. لم يتأخر الرد. الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كان جاهزاً. اكمل هجومه على السعودية. لكن الاهم انه ظهر مرتين متتاليتين امام جمهوره. يعرف تماماً ان درعه العسكري والدرع الدبلوماسي الايراني والروسي ما عادا يسمحان بالمغامرات. جنّ جنون اسرائيل. طالب بعض إعلامها بقتل سيد المقاومة. يبتسم السيد نصرالله.
ماذا عن المستقبل؟
لو نجح الاتفاق الغربي ــــ الايراني، فان وجه المنطقة سيتغير. حينها يعقد «جنيف « في حضور ايران، وينصاع الجميع للرغبات الروسية ــــ الاميركية، ويستمر القضاء على الارهاب، ويتم تجفيف منابع السلاح والمسلحين، وتشكل حكومة في لبنان بوجود حزب الله، ويبتسم بوتين.
اما اذا نجحت اسرائيل وحلفاؤها القدامى والجدد في تعطيل الاتفاق، فان المنطقة ستبقى مفتوحة على المجهول حتى أجل مجهول.
يقول مثل فرنسي: المهم من سيبتسم في آخر المطاف... يبدو ان الزمن الراهن هو للربيع الايراني على مستوى العالم.
17 تعليق
التعليقات
-
سامي كليب محلّلاً*يقول في مقاله: "الفريق أوّل عبد الفتّاح السيسي ليس رجلاً عاديّاً في التاريخ الحديث لمصر". والسؤال هنا: هل بضعة أشهر كافية لإصدار هذا الحكم الساحق "في التاريخ الحديث لمصر"؟!! *ويقول أيضا: ".. تحدث الرجل ساعة وربع الساعة عن مصر الجديدة وعن بعث روح عبد الناصر وعن ضرورة استقلال القرار المصريّ.. لم تمض أيّام حتى كان السيسي ومعه هيكل وصحب من الناصريّين وغيرهم على ضريح الزعيم". والسؤال هنا: هل بات علينا أن نسلّم بأنّ هذا كلّه ليس من عدّة الشغل؟!! أودّ هنا التذكير بصورة إعلاميّة عرضتها "الميادين" في فواصلها بين برامجها في فترة ذكرى يوليو 1952: كانت صور عبد الناصر ونجيب والضبّاط بين الجماهير تظهر ليتمّ التركيز -بطبيعة الحال- على صورة عبد الناصر في السيّارة المكشوفة رافعا يده محيّيا الجماهير في الصورة الشهيرة، وشيئا فشيئا كان يتمّ تمويه تفاصيل الصورة (فنّيّا) لتنبثق منها صورة مموّهة تأخذ في التوضًّح تدريجيّا، وإذ ب(الزعيم) الظاهر هو حمدين صبّاحي!! لن أناقش الآن في معنى ترويج قناة لقائد حزبيّ أو حركيّ، ولكنّي أتساءل: هل سلّم المتحمّسون بانتقال وراثة الناصريّة من صبّاحي إلى السيسي؟!!!
-
خيوط اللعبة وخطوات التفاهم وخطة الفهم• الروسي فهمه موضوعي ومبدئي • الصيني : لن يؤثر أحد على فهمه الهادئ والمتين • بوتين والأسد متشابهان ليس بالعيون الملونة فقط بل بالفهم العميق أيضاً • بوتين أفهم أوباما بطريقة العصف الفكري وقد وضعا معاً خارطة الطريق • الإيراني يفهمها بواقعية فتجربته سمحت له اختبار الآخرين • السعودي يفهم كما يريد لذلك يستمر بالتشدد • اللبناني يضيع فهمه هنا وهناك • التركي يفهم ما يجري تماماً لكنه يصر على أنه لا بفهم الآخر • سوء الفهم عند الإسرائيلي مرتبط بسوء النية • بعض المعارضة فهمهم قاصر سياسياً
-
خسارة السعودية فوز للانسانيةاية خسارة للسعودية هي مكسب لسوريا وفلسطين ولبنان وكل العرب وللمسلمين والمسيحيين وللانسانية وللبشرية جمعاء. ودمتم.
-
خيوط اللعبة يبدو أننا أصبحنا في الربع ساعة الأخير من اللعبة ، وهو الجزء الأكثر حساسية والأكثر صعوبة...!!! ويبدو أن الجانب الأمريكي بدأ يقتنع بأن منطقة الشرق الأوسط بدأت تخرج من تحت عباءته وبأن الأنظمة الخليجية الهرمة لم تعد تحاكي الواقع الراهن لذلك كان القرار الأمريكي بتسليم منطقة الشرق الأوسط مقابل ضمان أمن إسرائيل، وبنفس الوقت يتخلص من أنظمة الخليج الهرمةمقابل النووي الإراني ...
-
تحليل منطقيإنه تحليل منطقي استاذ سامي فليس من المعقول لملوك وأمراء الخليج وخاصة السعودية الذين يضعون أرجلهم في القرن العشرين ورؤوسهم في الجاهلية أن يفرضوا أجندتهم بعد الآن ، لقد مل العالم من هؤلاء لا يعرفون من الحياة إلا الثقافة الجنسية ومن الدين إلا العقاب والقتل والجلد وتلبيس الكعبة هذا الرداء الذي يكلف ملايين الدولارات (أنجس قوم وأطهر أرض) حان الوقت لتجريدهم من أمور الدين والحج والله حرام ..
-
امعان مفرط في التفائلامريكا لا تريد الحرب لكن لا يوجد اي تفسير للتفائل بإن امريكا تريد عمل صفقات في المنطقه استراتيجيه لمصلحة ايران لماذا؟
-
انت رائع دائماً يا سامي كليبانت رائع دائماً يا سامي كليب ، لك كل التحيه
-
لا شيء مدهشأي متبصر قليلا في السياسة ومتابعا لما يجري يمكن ان يقول اكثر بكثير مما قاله المقال.راهنت على معلومات عرفها او قد يعرفها السيد سامي كليب وخسرت انا الرهان فلم يكن هناك شيء.كل ما جاء ليس اكثر من معطيات موجودة وحدثت وما على المتابع الا ان يربط الامور ويعيد ترتيبها ليحصل على صيغ عمل قادمة بالتوقع .سامي كليب شكرا ولكنك لم تكتشف البارود.
-
السيسي مدعوم من السعودية بقوةالسيسي مدعوم من السعودية بقوة والتواصل مع روسيا بتشجيع منها
-
مقياس الربيع بقاء الاسد؟ و نعم الربيع!قد ينتصر نظام الاسد و حلفائه في المعركة العسكرية ضد فصائل المعارضة السورية، التي تضم وطنيين سوريين، و مجموعات تكفيرية هي ارهابية فعلا. لكن المفارقة المسكوت عنها في الاعلام المؤيد للنظام السوري ان بعض فصائل التكفير هذه نما في احضان هذا النظام بالذات! و قد يسحق النظام سحقا احياء و قرى و مدنا، و يربي في قلوب مئات الالاف من السوريين الحقد عليه و الشعور بالانكسار. هذا يحصل بالتزامن مع عدوان الطائرات الاسرائيلية و قصفها لاهداف كبيرة في سورية، يغطيه الاعلام المؤيد للنظام بكلام خجول او صمت مشين! السؤال: هل هذا كله يسمى في قاموس " المقاومة و الممانعة" نصر استراتيجي؟! هل بات الاتفاق الايراني - الاميركي ربيعا قبل ان تعرف حتى تفاصيله؟ مع الاحترام، هذا تحليل عاطفي ينطلق من رغبة شخصية في التشفي، و ليس قراءة سياسية اقتصادية اجتماعية تقيم موازين القوى ، و ترى واقع سوريا الحطام - سوريا الشعب، الدولة، الاقتصاد و النسيج الاجتماعي. سوريا ليست اجهزة النظام كما يطيب للاعلام الموالي ان يختزلها و يعرفها! للأسف، لقد نجح نظام السعودية و نظام الاسد في كسر سوريا و الحفاظ على انفسهما. غرق الجميع، بما في ذلك بعض الاعلام، في لعبة كسر الارادات على انقاض سوريا.