في السعودية ومصر والبحرين، يوجَّه نقد لاذع إلى الإدارة الأميركية، وخصوصاً من أولئك الحكام أو المسؤولين الذين يصنفون غربياً على أنهم متشددون.في الحالة البحرينية، فقد يبدو مثيراً للبعض القول إن خليفة بن سلمان آل خليفة لم يقم بزيارة عمل إلى أميركا، في غضون الثلاث والأربعين سنة الماضية التي قضاها رئيساً للوزراء في البحرين، في ظل أحاديث لا تتوقف عن الدعم الأميركي «الاستراتيجي» للمنامة، ومدى تبعية الأخيرة للأولى.
معلومة أخرى مثيرة، أن رئيس الوزراء المتشدد لم يزر بريطانيا رسمياً إلا مرة واحدة يتيمة في 1980، إضافة إلى زيارة أخرى في 2006 لحضور حفل تخرج حفيده من كلية سانت هيرست العسكرية.
ولم تكن زيارة الشيخ خليفة مطلع الثمانينيات إلى لندن بمبادرة منه، بل بدعوة رسمية من رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر، وذلك إثر التوصيات التي تلقتها المرأة الحديدية من فريقها السياسي بأن رئيس الوزراء المتشدد هو الشخصية البحرينية الأمثل لدعوته إلى جلسة مباحثات رسمية بدت مهمة حينها، في ظل وضع حساس إثر وصول الإمام الخميني إلى الحكم في طهران، واحتلال الروس لأفغانستان، كما تشير وثائق بريطانية نشرها مركز البحرين للدراسات في لندن في دراسة أخيرة بعنوان: «قاطرة الثورة المضادة: علاقة بريطانيا ورئيس الوزراء البحريني كما تعكسها الوثائق البريطانية».
وتعكس الوثيقة المذكورة أنّ رئيس الوزراء البحريني لا يخفي استياءه من بعض السياسات البريطانية، ورغم أن البريطانيين أكدوا لضيفهم التزامهم «بدعم أجهزة الاستخبارات والدفاع في دول الخليج مثل البحرين، للمساعدة على ضمان أمنهم الداخلي والإقليمي»، فإن خليفة بن سلمان صارح مضيفيه بأن «الاعلام البريطاني متحيز، مثل «بي بي سي»، التي تذيع دائماً أنباء المشاكل في المنطقة»، وإنه يجب على بريطانيا أن «تكون حريصة على مصالحها وألا تعرض العلاقات الغربية في المنطقة للخطر»، وهي نغمة ما زالت سائدة، بالمناسبة.
إلى ذلك، لا يعرف عن قائد الجيش المشير خليفة بن أحمد وشقيقه الأكبر وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد، وهما شخصان مؤثران للغاية في القرار الرسمي، زياراتهما المتكررة للدولتين الأبرز في دعم الحكم الخليفي، وسائر الحكام المستبدين في المنطقة.
وقد شن قائد الجيش هجوماً لاذعاً ضد واشنطن، في 2011، بُعيد قمع الاحتجاجات ورفع حالة الطوارئ في البلاد، لكون أميركا «تموّل 19 منظمة داخل الولايات المتحدة تعمل ضد نظام البحرين»، إضافة إلى شكواه مما سماه «اتفاقاً غربياً لفرض حظر على بيع المستلزمات والأدوات الأمنية والدفاعية التي تستخدمها الشرطة أثناء تعاملها مع المحتجين»، وهو الحظر الذي رفعته بريطانيا بعد شهر من إعلانه، فيما تستمر أميركا في الامتناع عن بيع أسلحة يمكن أن تستخدمها السلطات الخليفية في التعامل مع الحشود، لكنها تستمر في بيع معدات عسكرية أخرى، بعد حظر محدود.
واللافت، أن تصريحات المشير المعادية لواشنطن مستمرة، فيما احترفت صحيفة «الوطن» التي يصدرها الديوان الملكي الهجوم على أميركا وسياساتها تجاه البحرين ومصر وسوريا.
أما الملك حمد، فهو دائم الزيارة لبريطانيا، وخصوصاً بعد أحداث الربيع العربي. وهو يجد في لندن ضالته في حضن غربي، ودعم لوجستي يمكن وصفه بالاستثنائي والتاريخي، لمنظومة العنف الرسمي المتعدّد الأوجه، التي تشمل الاستخبارات، وأجهزة الأمن، والقضاء والإعلام، وأيضاً متاهة الحوار وسائر العمليات السياسية والعلاقات العامة التي ما زالت غير قادرة على إقناع المجتمع الدولي بحصافة النهج الخليفي.
أما زيارة الملك حمد إلى أميركا، فتبدو مؤجلة، في ظل تسريبات إعلامية بأن الرئيس أوباما غير راغب في مقابلته، لتفادي تفسير ذلك على أنه تغطية كاملة للنهج السعودي السائد في المنامة!
وقد شارك ملك البحرين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/ أيلول 2011، لكنه لم يحظ بمقابلة أوباما، الذي وجه إلى الملك حمد صفعة شديدة من على منبر الأمم المتحدة، حين قال إنّ على الحكومة البحرينية أن تفاوض حركة الوفاق المعارضة، التي تراها أميركا بديلاً محتملاً للمشاركة في الحكم. كذلك قال أوباما في 2013 إنّ البحرين تعيش توتراً طائفياً يجري علاجه عبر الانتقال للديمقراطية... هذا الصدود جعل الملك حمد يلزم قصره ولا يشارك في الجمعية العمومية في 2012 و2013، فيما تستمر آلته الإعلامية والدبلوماسية والبرلمانية و«الشعبية» في النيل من سفير واشنطن في البحرين.
إذاً، فإن أجنحة التشدد في البحرين وممثليها الحاليين الخوالد، وممثلها التاريخي رئيس الوزراء لا يبادلون أميركا وبريطانيا الود، واعتاد الشيخ خليفة أن يزور شرق آسيا طوال العقود الثلاثة الماضية، فيما رأى حمد بن عيسى أهمية التعويض عن البرود الأميركي بالاتجاه شرقاً، وقام خلال شهر سبتمبر بزيارة للصين، وقبلها (أغسطس/ آب 2013) زار البحرين رئيس وزراء الياباني، أعقبه رئيس وزراء كوريا الجنوبية، التي وقعت شركتها الكبرى «سامسونغ» مع الداخلية البحرينية عقوداً لتزويدها أجهزة تنصت وتحرّ تدعم الاستخبارات البحرينية في تتبع الناشطين السياسيين، فيما وقعت شركات أخرى عقوداً لتزويد البحرين بمئات الآلاف من عبوات مسيل الدموع التي تستخدم بكثافة في المنامة، كما كشفت ذلك منظمة مرصاد البحرين.
وحقيقة، فإن واشنطن لطالما تساءلت عما إذا كانت الجهود التي تبذلها لتبييض صفحة ولي العهد ودعمه قد تأتي أكلها أم لا، في ظل ضعف الأخير، داخل الأسرة الحاكمة، وضعف تحالفاته بين الموالين السنة. ولعل في الفشل الكامل لزيارة ولي العهد إلى لندن خلال مشاركته في اجتماع المنبر الاسلامي الاقتصادي العالمي التاسع (28 أكتوبر - 1 نوفمبر)، فشله في تسجيل نقاط لمصلحته ما يزيد من الاحساس العام بأنه غير قادر على إكمال التوصّل إلى «صفقة» معقولة للخروج بمأزق الحكم إلى بر الأمان.
وعلى الرغم من مقابلته عدداُ من الشخصيات البريطانية النافذة وبعض ممثلي المعارضة في وقت سابق، إلا أنّ رد العناصر المتشددة الحاسم جاء لخنق خطوته في مهدها، وللتأكيد على أنها مستمرة في خطتها لمحاصرة جمعية الوفاق واستمرار استراتيجيتها لشق صفها وانهاكها من خلال تقديم قيادتها للمحاكمة السياسية في كل منعطف. وفي ذلك رد مباشر على الدوائر الغربية في لندن وواشنطن مفاده بأن هنالك مساراً وحيداً وتحت سيطرتها الكاملة لترتيب الأوضاع في البحرين. وعلى الرغم من اختلال التوازن الاقليمي لمصلحة قوى التغيير في دول المنطقة، إلا أن المتشددين في البحرين هم العسكر والفئات التجارية المستفيدة من الأوضاع. ويجب التذكير بأنّ الملك حمد متخرّج في كلية «مونز» الحربية في بريطانيا، ثم واصل دراسات عسكرية أخرى في الولايات المتحدة، وقائد الجيش متخرّج في كلية «ساند هرست»، لكن الاشراف المباشر للأخير على مفاصل المؤسسة العسكرية يخفف من قدرات الملك على التأثير فيها على النحو الذي يتوقعه الكثيرون. أما ولي العهد «المعتدل»، فلم يتخرج في كلية «سانت هيرت» العسكرية، كما هو حال الكثيرين من طبقة الحكم في البحرين والخليج. وقد اختار ولي العهد دراسة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في واشنطن، حيث حصل على شهادة البكالوريوس عام 1992، وفي عام 1994 حصل على شهادة الماجستير في فلسفة التاريخ من جامعة كامبريدج في بريطانيا، وقد يعد ذلك مؤشراً إيجابياً على توجه مدني عند الرجل، بيد أن ذلك يراه بعض الخليفيين تعبيراً عن هشاشة التربية العسكرية للملك المقبل، في ظل القناعة الأكيدة لدى طبقة السلطة بأن منطق القوة هو ما يحمي العرش لا قوة المنطق.
وصحيح أن ولي العهد هو نفسه نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بيد أن ذلك يعد إلى حد كبير منصباً شرفياً، كما أن من الصحيح القول، في ما أظن، إنّ المؤسسة العسكرية قد فشلت في أداء دور سياسي بعد أحداث 14 فبراير 2011، لكن يصعب إنكار أن دورها كان واضحاً في قمع الاحتجاجات التي ما زالت قوية ومنتعشة، لأسباب هي ذاتها التي تثبت المحدودية التي يمكن أن تمارسها القوات المسلحة في الملعب السياسي، بيد أن ذلك يجب ألّا ينسينا المكانة التي يستمدها الملك الحالي (والمستقبلي) من هذه المؤسسة التي يفترض أنها بنيت للدفاع عن عرش آل خليفة ضد الخصوم المحليين أساساً.
وفي الواقع، فإنه يبدو مثيراً أن يطلب الملك من ابنه البكر التفرغ لمتابعة الشؤون الاقتصادية، وترك المؤسسة العسكرية لقائد الجيش، الذي يعد الساعد الأيمن للملك في بناء الجيش.
وقد جرت ترقية قائد الجيش من رتبة فريق أول إلى مشير في 8 فبراير 2011، بمناسبة يوم قوة الدفاع الثالث والأربعين، فيما يبدو مثيراً للدهشة والتساؤل أن ترقية ولي العهد من رتبة فريق أول إلى مشير، أعلنت بعد أيام من ترقية قائد الجيش، كأنها جاءت بعد عتب الابن على أبيه، الذي نسى ترقية ابنه البكر أو تجاهله، وفي الحالتين فإن لذلك دلالات يصعب التقليل منها، وخصوصاً حين نعلم بأنه قد جرت ترقية ناصر بن حمد (الأخ غير الشقيق لولي العهد) إلى رتبة عقيد وتكليفه رئاسة الحرس الملكي لتظهر مدى الثقة التي يحظى بها ناصر لدى والده، الذي يعده درعاً حصيناً لحماية أمن الملك الشخصي، ويتوارد أن هذه الترقية قد تكون خطوة أولى نحو تولي ناصر قيادة الجيش، وربما الرجل القوي في دولة مملكة سلمان، على طريقة دور رئيس الوزراء المركزي في عهد الأمير الراحل عيسى بن سلمان. (أنظر، الصراع المكتوم: مستقبل ولاية العهد في البحرين، مركز البحرين للدراسات في لندن، 22 يونيو 2013).
لم يستثمر ولي العهد الفرص المتاحة، أو لم يسمح له، بخلق قنوات تأثير ولو بصورة غير مباشرة على المؤسستين العسكرية والأمنية. مما يجعل حضوره في المؤسسة العسكرية هشاً، ويجعل حرص واشنطن ولندن على استمرار التواصل المباشر مع المتشددين ملحاً!
إن المتشددين في مصر والسعودية والبحرين بدوا قادرين عموماً على فرض أمر واقع بقوة السلاح ونشاط الاستخبارات، وفي ذات الوقت على تقديم خدمات مهمة للغرب داخلياً وخارجياً، لكنهم عادة يقودون البلدان للخراب، ما يجعل التغيير الدراماتيكي هو الخيار الأكثر توقعاً!
* كاتب وصحافي بحريني ــــــ لندن