كان في الحادية عشرة من عمره، عندما لامس غريب جسده. كانت لمسة مختلفة. لا تشبه تلك التي يفعلها معه والده أو والدته. «مقززة». هكذا، وصفها لوالدته بعد أعوام كثيرة من تعرضه للتحرش الجنسي في أحد أزقة مخيم برج البراجنة. أمس، في الفيلم الوثائقي الذي عرضته جمعية النجدة الاجتماعية عن التحرش الجنسي في معرض إطلاقها لحملتها الوطنية «خلي إيدك بإيدي مش ع إيدي»، خرجت والدة الطفل الذي لا نعرف له وجهاً ولا اسماً، وتحدثت عن الحال التي آل إليها ابنها بعد «أول لمسة»، والتي صار بعدها «انطوائياً وكثير الخوف وحزيناً ولامبالياً بدروسه». بعبارات قليلة، اختصرت الوالدة كل الأحوال. ليس ابنها فحسب، بل أبناء كثيرون يتعرضون للتحرش في حياتهم، وربما للاعتداء. لكنْ، قليلون من هؤلاء سيتجرأون على الاعتراف، كما فعلت تلك الوالدة أو كما فعلت أخرى في الفيلم نفسه عندما رأت كيف عرى الوحش صدرها وكاد «يفعل المحظور». كثيرون لن يخبروا. لن يحذوا حذو صبيتي الفيلم. سيتعرضون مراراً للتحرش ويصمتون. ولهذا السبب، «يصعب علينا الوصول إلى وصفٍ دقيق لمدى خطورة هذا المسألة الاجتماعية»، تقول عزيزة الخالدي، عضو الهيئة الإدارية في الجمعية ومعدّة الدراسة عن التحرش الجنسي في مخيم برج البراجنة نموذجاً، التي عرضت نتائجها للمرة الأولى أمس.
في تلك الدراسة التي شملت عينة مكونة من 116 أسرة، كان لافتاً التطابق في إجابات المتعرضين للتحرش عندما تحدثوا عن المكان الذي تعرضوا فيه. الكل كان متفقاً على «الزاروب». فلا نكذب عندما نقول الكل، وهم بنسبة 12% غالبيتهم من الأطفال، تعرضوا للتحرش أو الاعتداء في زاروب الحي الذي يقطنونه. وهو الجواب نفسه الذي يقدمه المشاهدون لحادثة تحرش أيضاً، وهم بنسبة 14,2%. ربما «لأن المخيم كله زواريب»، تعلق إحدى المشاركات بابتسامة لا تخلو من التهكم. وهو ما قد يكون حقيقياً، وما قالته إحدى الباحثات الاجتماعيات في الفيلم عندما تحدثت عن «تركيبة المخيم».
لكن، ليست هذه النقطة هي فقط ما يلفت، فثمة شيء آخر يستحق الإشارة إليه، هو الإجابة عن سؤال: من هم المتحرشون؟ وهو سؤال سيحيلنا على الحقيقة التي تمنع ضحايا كثراً من البوح بما حدث لهم. فعندما تشير الدراسة مثلاً إلى أن «التحرش يسببه الأقارب، سنفهم عندها سبب خوف الضحايا من إفشاء ما تعرضوا له»، تقول المعالجة النفسية زينة حداد. ثمة أمثلة كثيرة قد نعرضها من خارج الدراسة، منها قصة «فراس» الذي تعرض للتحرش، ومن ثم الاعتداء 7 سنواتٍ متواصلة من زوج عمته، و«لمى» التي تعرضت للتحرش في عمر الخمس سنوات، واستحال في عمر الحادية عشرة اغتصاباً على يد زوج والدتها. والأمثلة كثيرة. أما من هم الضحايا؟ فهنا الكارثة، إذ تبين الدراسة أن غالبية الضحايا هم من الأطفال ومن الجنسين على حدٍّ سواء. وهذا ما لا يلتفت الكثيرون إليه، وخصوصاً الأهل «الذين لا يتحركون في غالبيتهم إلا في حالات الاغتصاب». وهنا أهمية توعية هؤلاء «على ضرورة تربية أولادهم تربية جنسية، يعني هيدي القبلة مسموحة وهيدي لا...»، تتابع حداد.
في النموذج الذي سيصلح للتعميم في أماكن كثيرة، ستشير الخالدي إلى ازدياد حالات التحرش، مرجعة الأمر إلى سبب أساسي يتعلق «بزيادة الوعي في هذا الموضوع، حيث شهدنا أخيراً بعض المبادرات الشبابية والفردية وحلقات التوعية التي يقوم بها البعض مع الأهل». لكن، ثمة من يقول شيئاً آخر يستحق التعويل عليه، فماذا لو كان هذا الأمر لا يتعلق بالوعي، بل يتعلق بأسباب أخرى، منها الوضع الاقتصادي والوضع الأمني الفالت؟ أليست كل هذه الأشياء مسببات لكي نذهب إلى حد الاعتداء؟ ألا تظهر يومياتنا الكثير من هذه الصور؟ وفي هذا الإطار، ترجع إحدى الباحثات في الفيلم الوثائقي سبب ازدياد حالات التحرش في المخيم تحديداً «إلى الفقر والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية السيئة، مرفقة بالاكتظاظ السكاني». وبحسب الباحثة أيضاً، ستؤدي هذه العوامل في ما بعد «إلى ما هو أبعد من التحرش. إلى الاغتصاب مثلاً والقتل». وفي هذا الإطار، تعرض رئيسة الجمعية ليلى العلي جملة أمثلة، استحال بعدها التحرش اغتصاباً «في ميدان التحرير في مصر وفي معتقلات النساء في العراق وفي غزة خلال الحرب التي دارت أواخر عام 2009...»، وغيرها الكثير من الأمثلة. أما القاسم المشترك بين تلك الأمثلة، فهو أن معظم الحالات «سجلت ارتفاعاً في فترة الحروب»، وهو ما حصل «في لبنان سابقاً في مثل تلك الأوضاع»، وما قد يحصل إذا ما استمر الوضع على حاله من الفلتان الأمني.
وهو ما ليس مستغرباً، فالجمعية العمومية للأمم المتحدة أشارت إلى هذا الأمر في عام 1999، عندما أطلقت حملة الـ16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة. يومها، أشارت الجمعية إلى نسبة الـ«2 من أصل 3 نساء يتعرضن للعنف في العالم»، وهي النسبة التي لا تزال صالحة إلى الآن.