لم يكن لديّ شك في أن السيدة فيروز تحبّ السيد حسن نصرالله؛ لكن لزياد الرحباني، في مقابلة حسّاسة وذكية مع موقع «العهد» الإخباري ـــ وهي أجمل من معظم مقابلاته الأخرى ـــ، فضّل تحويل الحدْس إلى خبر. ولا أعرف متى يمكن أن يتأكد حدْسي بأن نصرالله من محبي أم زياد، إلا أنني أرى الصورة كالتالي: من غير الممكن ألا تكون الصلةُ الروحيّةُ حاضرةً بين أرقى شخصيتين أنتجهما المجتمع اللبناني، الأسطورتين المكتظّتين بغنى الروح والأسرار الكونية، بالإبداع والحضور الساحر والحياء؛ كل ما جسّدته فيروز من وقفات عز وطنية وإنسانية على المسرح، جسّده نصر الله على مسرح الواقع؛ الأولى، كمنارة ثقافية إنسانية، تستطيع، مكتفيةً بما ولّدته فينا من طاقة التحرّر والمحبة، أن تلوذ بالصمت المثقل بالمعاني، بينما الثاني، كزعيمٍ سياسي، مضطرٌ للظهور والقول.
لولا الضرورة النضالية والالتزامات السياسية، أحسب أن نصرالله، كان ليفضّل، كفيروز، الصمتَ، تاركاً لطاقة المقاومة أن تفعل في أرواحنا من دون خطابات. لكن الأرشيف الذي يحتفظ به فنّان ومثقف في وزن زياد، لتلك الخطابات، يعني أن فيها ظلالاً فنية ما، روحاً ما، لا نقدر، نحن الغارقين في خضمّ السياسة اليومية، ادراكَها؛ ليس الأرشيف ذاك، عند عبقريّ جيلنا، عبثاً. سيأتي زمانُه الفني. كيف يكون؟ ومتى؟ ذلك في علم المفاجآت. عند فيروز ـــ وعاصي ـــ الأمر أبسط: أشعر، مثلاً، في تداخل الأزمان والمعاني، أن المقدمةَ الموسيقيّةَ لمسرحيّة «جبال الصوان»، قد كُتبتْ لمقاومي حزب الله، نشيداً.
في الرطانة اليسراوية اللبنانية، نقدٌ ساخر لصورة الوطن الذي تغنّيه فيروز؛ ولكن ألا يحقِّق نصرالله ـــ ورجالُه ـــ في الواقع، ملامحَ أصيلةً من تلك الصورة؛ «بَعْدا جْبال الصوَّان ... عمّ بتقاوِم/ زحف الزحف عليها/ وقع الويل عليها...»، لكنها لا تركع ولا تهرب ولا تخاف.
الزحف لم يعد يأتي، فقط، من جهة الجنوب، دائماً لم يكن يأتي، فقط، من جهة الجنوب، لكن التحالف بين تل أبيب والرياض، اليوم، صار على المكشوف؛ ما نكص عنه جيش الاحتلال، يندفع لتحقيقه الآن، رجال آل سعود، التكفيريون الإرهابيون؛ والهدف واضح: ضرب أمن بيئة حزب الله، وأمن قواعده، وأمن مؤسساته، من الخلف، بالاغتيالات والمفخّخات. والخطة السعودية ـــ الإسرائيلية، حتى لا تكون هناك أوهامٌ، متسلسلةٌ نحو التصعيد: إرهاق المقاومة داخلياً، واضطرارها إلى الانكفاء، منهكةً وجريحةً، سورياً ولبنانياً، مقدمةً للانقضاض عليها بآلة الحرب الصهيونية.
بندر بن سلطان، يمهّد للانتقام التلمودي من هزيمة 2006؛ فلقد فَتَح الربيع العربي الأسود، السياقَ للخلاص من «جبال الصوّان» المتمردة من جنوب لبنان إلى دمشق. والسلاحُ الفعّالُ هو الكراهية، ذلك الشيطان الذي يفرّ هارباً من صدى الأغنيات الفيروزية، خصوصاً، حين تكون «المحبّة غضبا».
السعودية تشن حرب الكراهية على سوريا ولبنان ـــ كما العراق ـــ ؛ ليس، عندها، قيودٌ من أيّ نوع على القتل العَمْد لبسطاء الناس؛ يخسر مجرموها في المعارك العسكرية مع الجيش السوري، فتقصف، عشوائياً، بلدتين محاصَرتين يسكنهما كادحون شيعة في الشمال السوري: المزيد من الموت لـ «الأغيار»: شيعة نُبّل والزهراء، بعد العلويين والمسيحيين والدروز ــــ والسنّة المختلفين سياسياً ــــ من ريف اللاذقية إلى أحياء دمشق إلى عدرا، وبينهما «الضاحية» والجنوب.
فيروز ونصرالله. هذا هو ردّ المشرق الحضاري على صحراء الوهابية: المحبّة المسلّحة؛ لن نكره وسنقاوم! لن تغرق القلوب التي تحمل «جبال الصوان» على أكتاف الزمن، في وحل الكراهية، بل تفور بكرامة الغضب المقاتل؛ قرار المقاومة، روحاً وفكراً وقلماً وفناً وسلاحاً، ألاَّ تكره، ألاَّ تقاتل الضحايا، بل تكسر قلاع التلمود الصهيو ـــ وهّابية، وتحرّر البشر: «يا ريت فييّ دوْر حرِّرْ هلعبيدْ».
«سر» لا سري صغير في مقابلة صحفية، «سر» يخشى زياد، كالطفل، أنه أفشاه، يضيء فرح إعادة الاكتشاف: الغضب لا الكراهية، المقاومة لا القتل، أخوّة الخَلْق، الذين لا يجعلهم دين أو مذهب أو اتنية، «أغيارا» للذبح، كما لدى التحالف السعودي ــــ الإسرائيلي، بل أخوةً ونُظَراءَ ومواطنينَ أحراراً.
فيروز ونصرالله. ليس ذلك جديداً؛ إنها «اسوارة العروس» نفسها... المشغولة بالذهب وبالدم، بالوعد والإرادة... وقد رأينا بريقها، ولمحنا، وسط القهر والألم والدموع، انتصارها الآتي من القدس إلى مكة إلى أنطاكيا... وسائر المشرق!