المداخلتان الوحيدتان اللتان لهما معنى في «جنيف 2»، هما مداخلة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم؛ مداخلة مثلت مرافعة تاريخية دفاعاً عن الدولة الوطنية السورية، وقيمها القومية والمدنية وإنجازاتها ودورها الإقليمي في مواجهة عدوان واسع إجرامي مستمر منذ ثلاثة أعوام، تقابلها مداخلة وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، التي أعادت التأكيد على سياسة المملكة المعادية لسوريا، بلداً وحضارة وشعباً.
عدا عن ذلك، كان اليوم الأول من «جنيف 2»، احتفالية فولكلورية؛ وكل شيء يأتي بعد زمانه يصير فولكلوراً؛ تغيّرت عناصر التسوية حول سوريا، في الأشهر الستة الأخيرة، جذرياً؛ استردّ الجيش العربي السوري، ميدانياً، المبادرة، وبدأ يحقق ما كان متفقاً على استبعاده، أي الحسم العسكري. موسكو هي التي تقول الآن إن ذلك الحسم بات ممكناً، وليس أي مسؤول سوري. الرئيس بشار الأسد لم يعد موضع خلاف بين أغلبية السوريين، بات الشخصية المحورية للإنقاذ. وبينما كان، حتى مطلع 2013، مقبولاً كرئيس حتى نهاية ولايته، أصبح ترشيحه لولاية جديدة ضرورة سورية ودولية؛ فلا أحد يجادل الآن بإمكانية فوزه. النظام صمد، تماسك، تقدّم في المعركة السياسية. الدولة استعادت القدرة على إدارة البلاد، بقدر معقول من الكفاءة في زمن الحرب. في المقابل، تفككت المعارضة، تشتتت، بين الرعاة الآفلين: قطر وتركيا، والراعي الجديد المصاب بجنون الهزيمة، السعودية، وفرنسا والمداخلات المضطربة للاستخبارات الدولية والإقليمية؛ أصبح للمعارضة السورية عنوان تكفيري إرهابي متوحش، سواء أكان «داعش» أم «النصرة» أم «الجبهة الإسلامية» التي لا تقل عنهما وحشية.
««جنيف 2»»، إذاً، ليس سوى مؤتمر في الزمن الضائع، ستكون له أهمية واحدة: إعلان دولي ضد الإرهاب. وهي مجرد مظلة سياسية معنوية؛ فالسعودية ستواصل الحرب، ستواصلها حتى الهزيمة: المعبر التركي سيُغلَق، يبقى المعبر الأردني شبه المغلق، والذي سيكون صعباً تحويله إلى جبهة، لثلاثة أسباب: الوضع الداخلي لا يسمح، الترتيبات الأردنية العراقية ــــ الأميركية في مكان آخر، تتجه إلى التركيز على محاربة الإرهاب غربي العراق، وأخيراً، هناك تفاعلات مشروع كيري على الأرض؛ التدخل في سوريا الآن معناه خلط الأوراق، وإشعال فتيل جميع التناقضات دفعة واحدة. الأردن نفسه على شفا الوقوع تحت التهديد الإرهابي: آلاف الإرهابيين وأكثر من مليون قطعة، عدا عن المخاوف الجدية لهجرة إرهابيي حوران إلى الأراضي الأردنية.
القضية الرئيسية الآن هي الحرب على الإرهاب؛ سيعمل ذلك على بناء جبهة واقعية تشمل دول جوار سوريا، محور المقاومة، روسيا والولايات المتحدة؛ اتساع الجبهة يعني الكثير من التناقضات والأهداف الفرعية، لكن الأمر الجوهري يتمثل في أن المعارضة السورية لم تعد سوى إطار مشبوه بالإرهاب.
هل يشرّف الرفيق قدري جميل الإصرار على الانتماء إلى معارضة كهذه؟ مبكراً أعطى قدري جميل الإجابة الصحيحة عن سؤال الخروج من الأزمة السورية، وذلك بالانتماء ــــ من موقع الاختلاف ــــ إلى الحكومة السورية، ثم وقع في الخطأ الكبير؛ بقي على اقتناع فائت بأن الحسم العسكري غير ممكن، وظنّ أن ثوب المعارضة أجمل وأليق، وتعلّق بسراب ««جنيف 2»» والحل الدولي الذي سيكفل حكومة انتقالية، فاختار القفز إلى حيث يضمن مقعداً له في صفوف المعارضين في ««جنيف 2»». تفضّلْ يا رفيق هذا هو ««جنيف 2»» وها أنت، وهيثم منّاع، خارجه، وها هو وفد المعارضة لا يعدو أن يكون أفراداً جلبتهم واشنطن على عجل لاستكمال الديكور، بينما التسوية التي تحدث فعلاً ليست سوى إطار تفاهم بين واشنطن ودمشق برعاية وضمانة روسية؛ يكرر إطار التفاهم الأميركي ــــ الإيراني حول النووي. حسناً! ربما نعكس الآية، ونلاحظ أن مسار التفاهمات كله، بدأ من الرعاية الروسية للاتفاق على إتلاف الأسلحة الكيميائية السورية.
التسوية الجدية القابلة للحياة لا تزال ممكنة بالطبع، إنما مكانها في دمشق؛ نحو حوار يؤدي إلى حكومة وحدة وطنية تتصدى للإرهاب وتشرع في إعادة البناء وتطلق عملية سياسية سورية نحو سوريا جديدة، تحافظ على خطها الاستراتيجي في السياسة الخارجية، وتسعى إلى بناء نظام ديموقراطي اجتماعي في الداخل.
لم يعد مشرفاً أن يكون السوري معارضاً؛ ولم يعد جدياً انتظار ««جنيف 2»»؛ الطريق الوحيد المفتوح هو الطريق نحو لقاء يضم جميع الوطنيين السوريين في دمشق، بلا شروط مسبقة، وتكون النقطة الأولى على جدول أعماله استبعاد العوامل الخارجية، وتكوين جبهة القوى القادرة على النهوض بالبلد؛ الحل سوري وفي سوريا، لا موالاة ولا معارضة، بل حركة وطنية واحدة تعددية تخوض معركة الحاضر وتصنع المستقبل.