حين يلتقيك مرة ثانية، سيشعرك بأنه يعرفك منذ سنوات، وبأنك تعرف في المقابل كل أسراره، فيكتفي بالتلميح إلى حدث أمني هنا وحقبة سياسية هناك. يتصرف النائب فادي الأعور، من جهته، كصديق، مؤيد للقضية الفلسطينية ومحرض على الإقطاع السياسي، مع أنه ابن عائلة الأعور، تاركاً للآخرين مبادلته التصرف نفسه أو استعداءه. ورغم القامة الودودة التي تتذكر بين خطوة وأخرى أنها تشغل موقعاً نيابياً، فتضبط سرعتها وحركة ساعديها، لا يزال النائب البعبداوي يثير أسئلة في أروقة المجلس النيابي وخارجه عمّا يفعله هذا الرجل هنا. لا يحفظ له المجلس سوى القول الشعبيّ عن الدبس والنمس الذي شطبه الرئيس نبيه بري من محضر الهيئة العامة. يمزّق الدعوات التي ترده من السفارات الأجنبية إلى حفلاتها المتنوعة قبل أن يقرأها. يمكن أن يمر بسيارتك المعطلة على طريق فرعي، فينزل قبل مرافقيه لـ«يعطيها دفشة».
قد يجد أمامه صحن «سوشي» فيطلب ملعقة. يمكن أن تدخل مكتب أحد النواب في المجلس النيابي فتراه وخمسة أو ستة من زملائه يتحلّقون حول الأعور مذهولين من قصصه المذهلة. يمكن أن تمر في نهاية الأسبوع ببلدته قرنايل فتراه فوق جرافة ينجز بعض الأعمال الخاصة في منزله وحوله. ماذا يفعل هذا الرجل في المجلس النيابي وكيف وصل إليه؟
في عدوان 1967 كان فادي الأعور في السابعة من عمره. بكى بحرقة عندما وضّبت والدته كنزة باتت صغيرة عليه كانت قد حاكتها له إحدى مسنات بلدته، قرنايل، لتتبرّع بها للاجئين الفلسطينيين. لكنه سرعان ما وافق على التخلي عنها حين قصّت له والدته أخبار هؤلاء اللاجئين. لا بل وقع في حبهم حين غدت قصصهم المادة الرئيسية لمسرح مدرسته. «لم أكن تلميذاً شاطراً»، يقول الأعور، مستدركاً: «ولا كسلان؛ المهم أن أنجح».
بعد ذلك بخمسة أعوام، كان الصبي نفسه يتظاهر مع زملائه في المدرسة لمطالبة بلدية قرنايل بصبّ طريق المدرسة أو تزفيته، فأنّبه بعض أقربائه لأن زعيم عائلته، بشير الأعور، «يغطّي البلدية». ولم يلبث أن وقع الصدام بين الحكومة اللبنانية والفدائيين وكان الأعور وزير داخلية، فتكرّست نقمة «الأعور الصغير» على «الأعور الكبير»، أو ما راح يطلق عليه الإقطاع العائلي، مع العلم بأن النائب الحالي لا ينحدر من الجبِّ الذي توارث الزعامة في بيت الأعور.
كان والده قد توفي وهو في الخامسة من عمره. والدته التي ربّته وأشقاءه الأربعة كانت ترأس، في موازاة عملها داخل المنزل وخارجه، «جمعية رعاية الطفل»، و«كانت تجلس في يوم الانتخابات على الصندوق». بدأ، انسجاماً مع ولهه بالقضية الفلسطينية ونقمته على الإقطاع، يلحق بالسوريين القوميين الاجتماعيين إلى اجتماعاتهم، حتى أتيح له عام 1977 الانتماء الرسمي إلى الحزب، تمهيداً لأدائه واجبه الميداني في قتال إسرائيل عام 1982. هنا يتحدث الأعور بغموض يوحي بأشياء خطيرة ودور خارق. قبل أن ينسب لنفسه الفضل في استقطاب الحزب القومي في منطقته مئات الشباب، خصوصاً الدروز منهم، لا سيما أبناء بيت الأعور. بقي في الحزب القومي الذي شغل موقع منفذه العام في المتن الأعلى حتى عام 1998، حين فك «الالتزام الإداريّ». لماذا؟ «لأن دوائر الحزب أخذت تأكل نفسها وباتت مثقلة بتراكم الأعباء التاريخية».
تختفي سبع سنوات من التسلسل الزمني للأحداث، ليعود الأعور ويظهر إثر «تكويعة» النائب وليد جنبلاط عام 2005، عندما بحث خصومه بـ«السراج والفتيل» عمن يعارضون توجهاته في الطائفة الدرزية. باتت بيانات الأعور تجد من يوزعها، كما وجدت حالته الصغيرة، سواء داخل عائلته أو في قرنايل وجيرانها، من يتبنّاها. وما كادت حرب تموز تضع أوزارها، حتى كان النائب الحالي يرأس عشية أحداث 7 أيار «هيئة العمل المقاوم في لبنان». وهي، كما يصفها، إحدى خلايا سرايا المقاومة (شبه النائمة). ورغم عدم اشتراكها فعلياً في تلك الأحداث، أظهر الأعور بواسطتها التزاماً سياسياً وأمنياً تهرّب منه معظم حلفاء حزب الله الآخرين في الطائفة الدرزية. هكذا ضمن الأعور في انتخابات 2009 تبنّي الحزب لترشحه عن المقعد الدرزي في بعبدا، قبل أن يتعرف النائب ميشال عون إليه ويفضّله على سائر المرشحين. «طفلاً، كنت أحلم بأكثر من النيابة قبل أن تصدمني حقائق النظام الطائفي»، يقول الأعور. لم يحلّ أول بين جميع المرشحين في قضاء بعبدا في تلك الانتخابات فقط، بل تقدّم المرشحين على لائحته عند المقترعين الدروز بنحو اثنين في المئة، بما يوحي أن بعض الناخبين الدروز الذين لا يؤيدون حزب الله وعون اقترعوا له.
غدا نائباً ولم يتغيّر كثيراً. حتى ولو كانت المسألة مجرد شعارات، تسمع في مكتبه أو منزله نقداً واضحاً للإقطاع الدرزي. ينكبّ منذ أشهر على تنقيح قوائم تظهر بالأرقام الغبن الذي يلحقه جنبلاط بالعائلات الدرزية المعارضة تاريخياً لأسرته. لم تزده زياراته للمختارة، في بعض المناسبات السياسية، إلا غضباً من طريقة استعلاء البيك. لا عقدة دونية هنا، يقول عن «أبو تيمور» إنه مجرد سياسي تقليدي، «تجعلني مشاركاتي في قتال الإسرائيليين والمنظومة الأميركية في المنطقة أقوى منه بكثير». يوافق على أنه لم يُظَهِّر نقمته على الإقطاع الدرزي في عمله النيابي، لكن الموقع التشريعيّ ــــ السياسيّ ــــ الخدماتيّ خصوصاً سهّل، بحسب قوله، تواصله مع عدد أكبر من المواطنين الذين لا يكفّ عن تحريضهم على الانتفاض لكراماتهم ضد الإقطاع عموماً الذي يعاملهم كالعبيد. وفي رأيه، النائب طلال أرسلان «وجه آخر لسلوك إقطاعي واحد»، مع العلم بأن محاولات حزب الله تقريبه من أرسلان فشلت لأن «من لديه قضية يتحسّس من المقربين أكثر من البعاد».
بعد دردشات مع الأعور، يتكرّس اقتناع بأن الحظ وحده من أصعده في «البوسطة» البرتقالية ــــ الصفراء التي تقل المرشحين في بعبدا إلى المجلس النيابي. كان يفترض بخطابه السياسي أن يقضي درزياً عليه لا أن يحوّله إلى «الممثل الرسمي لكل أهالي بعبدا»، وخصوصاً أبناء الطائفة الدرزية منهم. لن يكون نائباً مشرعاً يوماً ولا محاوراً سياسياً أو جرافة خدماتية. سيبقى على طبيعته: سوري قومي اجتماعي غير منضبط، ينسب إلى والدة سلطان باشا الأطرش هروعها إلى سطح منزلها عند رؤيتها ابنها عائداً إلى القرية لنكش سطحه، مرددة: «الدار التي لا تجد زلماً يحمونها، هدمها حلال». وسيشبك، بعد غداء الأحد، أصابعه بأصابع أبنائه وأصدقائه ليدبك مردّداً: زينت داري من العدا، وما زينة الدار إلا رجالها.