في حال إبرام الحكم الصادر عن محكمة المطبوعات أمس، بحق الوزير السابق شربل نحاس، فهذا يعني أن سجله العدلي «سيتلوّث». أما سجلات الجهة المدعية على نحاس، وكلّ المتورّطين في قضية «سبينيس»، فستبقى نظيفة. هذه ليست إلا النتيجة الشكلية لما قد تؤول إليه واحدة من جولات المعركة المفتوحة بين المدير التنفيذي لشركة تجارية ضخمة، وبين مواطن أخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن حقوق عمّال مظلومين. لكن الحكم الذي صدر أمس، لن يبقى في إطاره الشكلي، وخصوصاً أن المدّعي مايكل رايت لم ينتظر أكثر من ساعتين قبل أن يطلب من محاميه التوجّه لتبليغ نحاس بدعويين جديدتين كان قد رفعهما عليه بجرمي القدح والذمّ قبل شهر ونصف. أي إن رايت كان ينتظر صدور الحكم، ليضرب ضربته الثانية. الحكم بإدانة نحاس، لاستخدامه مصطلحات مثل «الشبيحة» و«الإرهاب» في حق رايت و«سبينيس»، جاء محبطاً لكثيرين كانوا يعوّلون عليه، ليشكل رافعة إضافية تعين المواطنين في معاركهم النقابية. فقد شفع لشربل نحاس تاريخه النضالي والحقوقي، ليحصل على أسباب مخفّفة تتيح له أن يدفع مليوني ليرة فقط، جرم الذمّ.
لكن ما الذي قد يشفع للمواطنين العاديين، الذين تنتهك حقوقهم يومياً، إن تصدّوا، كما فعل عمّال «السبينيس»، لأرباب أعمالهم وانتفضوا مطالبين بحقوقهم؟
بعد هذا الحكم، بات على كلّ شخص منا أن يبحث كثيراً في القاموس ليجد ما يصف به أعمال رايت و«سبينيس»، ومن يطبق نموذجهما. ربما نحن مدفوعون إلى البحث عن مصطلحات تصف ما تدفعنا إليه هذه الممارسات. هل يستقيم الأمر إذا قلنا إن النظام الذي تعمل وفقه هذه الشركة، ومثيلاتها في لبنان، يقهرنا؟ أن يقول مواطن إنه مقهور، مغبون، «ملعون سلافه»، مضطهد، حقوقه مهدورة؟ هل يصبح بديهياً عندها أن تبادر محكمة، أي محكمة إلى معاقبة مسبّبي وصول اللبنانيين إلى هذه الحالة؟ هل المطلوب هو البكاء واليأس؟
يرفض نحاس الاستسلام لهذه المقولات. «الإحباط» عنده أمر مرفوض، حتى لو كان هناك من يدفعنا إليه. يضحك لدى سؤاله عن مستقبل سجله العدلي، ويقول بالثقة نفسها: «لا يمكنني إلا أن أكرّر: مايكل رايت إرهابي. سأستمرّ في التشهير؛ لأن هذا واجبي». وهذا الكلام يعني أن نحاس سيستأنف الحكم أمام محكمة التمييز، على أمل الحصول على حكم مختلف يكرّس اجتهاداً جديداً كما كان يطمح المدّعى عليه. حتى إن وكيله، المحامي نزار صاغية، لا يتردّد في القول إن الحكم «لم يأت على قدر الاستحقاق»، موضحاً بقوله: «نحن كنا نرجو أمرين: التوصّل إلى اجتهاد من قبل القاضي يجعل من التشهير حقاً حين يكون واجباً وطنياً. والأمر الثاني هو الاستماع إلى الشهود وتكريس هذا الحق»، مذكرّاً بأن المدّعى عليه قدّم لائحة من ثلاثين شاهداً (عمّال في «سبينيس»، إداريين، إعلاميين، سياسيين…)، كذلك أُبرزت مستندات تثبت واقعة الترهيب، منها ضرب أمين سرّ نقابة عمّال «سبينيس» مخيبر حبشي وصرف عدد من العمّال، فضلاً عمّا كتبته المنظمات الدولية عن الأمر... لكن القاضي قرّر عدم التوسّع في المحاكمة، الأمر الذي قد يمكن المطالبة به في محكمة التمييز بعد تقديم الاستئناف». طموح صاغية لا يزال قائماً «وأثق بأن الحقّ في التشهير سيتكرّس يوماً ما كما حصل في أكثر من دولة في العالم». وفي انتظار تكريسه «التشهير سيتواصل لأن الواجب مستمرّ».
وكانت محكمة المطبوعات قد أصدرت أمس، برئاسة القاضي روكز رزق، حكمها في الدعويين المرفوعتين من قبل شركة «سبينيس» ومديرها التنفيذي على الوزير السابق شربل نحاس. ويمكن اختصارهما بالآتي:
براءة شربل نحاس من جرمي القدح والذمّ، في الدعوى القائمة على عبارة كتبها نحاس وورد فيها «وقاحة من يعتبر نفسه فوق القانون». فرأت المحكمة أن «قول المدّعى عليه، المعروف بنضالاته الاجتماعية والحقوقية في مجالات عدة، أن المدّعي وقح ويعدّ نفسه فوق القانون ويحتقر القضاء، على النحو المبيّن في باب الوقائع، يعتبر ولو جاء بتعابير قاسية ومباشرة ولاذعة من باب حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وتنوير الرأي العام وتوعيته، والنقد المباح ولا يعتبر من باب الإساءة الى الغير».
وبرّئ نحاس أيضاً من جرم الخبر الكاذب، تبيّن لاحقاً أنه غير صحيح.
أما الإدانة، فجاءت لاستخدامه تعابير مثل «الشبيحة» والإرهاب، في وصف ممارسات كلّ من شركة «سبينيس» ورايت. ورأى القاضي أن «هذه التعابير والمصطلحات المستعملة، تأتي في معرض الشك بالجهة المدعية، والنيل من شرفها ومن كرامتها».
وهذا يعني أن نحاس أدين لاستخدامه عبارات تصبّ مباشرة في معركة الدفاع عن حقوق عمّال «سبينيس»، وفضح الممارسات التي كانت تقوم بها الشركة ومديرها في لبنان، ما جعلته يصفها بـ«المنظمة الإرهابية». وقد وردت كلّ المصطلحات موضع الدعوى في هذا السياق: سياق النزاع الحاصل بين شركة «سبينيس» ومديرها التنفيذي والإقليمي من جهة، وبين بعض الأجراء لديها من جهة ثانية.
الأمر الإيجابي الذي يمكن التوقف عنده في الحكم هو الأسباب المخفّفة التي استعملها القاضي ليخرج بتغريم نحاس بمبلغ مليوني ليرة لبنانية، سنداً إلى أحكام المادة 20 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77 المعدّل، التي تعاقب على جرم الذمّ، معطوفة على المادة 26 منه، التي تحدّد المسؤول عن الجرم. كذلك ألزم الحكم نحاس بدفع مبلغ ألف ليرة لبنانية لكل من المدعيين، وذلك كتعويض معنوي.
ويفيد المتابعون لقضايا المطبوعات بأن الأحكام التي تصدر بالإدانة، تطلب عادة مبلغ ستة ملايين ليرة لبنانية كحدّ أدنى، كذلك تُلزم المدان بدفع التعويض الذي يحدّده المدّعي. وهذا يعني أن القاضي، وإن لم يكن قد توصّل إلى الاجتهاد المرجوّ، إلا أنه لم يغفل سياق القضية العام من حساباته. هذه القضية لم تنته أمس، وخصوصاً أن شربل نحاس قرّر مواصلة التشهير، فيما استمرّ مايكل رايت برفع دعاوى القدح والذمّ.




التشهير واجب... لهذه الأسباب

منذ أصرّ الوزير السابق شربل نحاس على الخضوع للمحاكمة في الدعويين المرفوعتين ضدّه من قبل «سبينيس» ومديرها التنفيذي مايكل رايت، كان طموحه أبعد من البراءة. التفت منذ البداية إلى إمكانية تحويل المحاكمة إلى فرصة تتيح الحصول على اجتهاد قضائي يجعل من التشهير بالفاسدين واجباً وطنياً. فهل كان نحاس يقترح أمراً جديداً أم أنه استند إلى سوابق؟ ولماذا يرى أن التشهير واجب أخلاقي ووطني؟
الإجابة عن هذين السؤالين نجدهما في الكلمة التي كان نحاس قد أعدّها ليتقدّم بها إلى محكمة المطبوعات. ونقرأ فيها:
«هناك حالتان تزيحان ادعاء الذم في فرنسا:
الحالة الأول تتعلق بقيام المدّعى عليه بالذم بإثبات صحة مقولته، فيسقط عندها ادعاء الذم، وفقا للتعديلات التي أدخلت عند التحرير سنة 1944 والتي لم يأخذ بها القانون اللبناني إلى الآن.
الحالة الثانية، وهي قائمة على الاجتهاد وتتكرر أكثر بكثير من الحالة الأولى وتقوم على إثبات المدعى عليه بالذم حسن نيته في مقولته. وحسن النية يرتكز على أربعة أركان: المبرر المشروع للاهتمام بالمسألة، الحذر في انتقاء الصفات المستخدمة، غياب العدائية الشخصية بين الطرفين، والأهم جدية العمل للاطلاع ولجمع المعلومات قبل إطلاق المقولة».
ويضيف نحاس إلى ذلك وجود «اجتهاد ثابت مشترك بين محكمة التمييز الفرنسية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يعتبر أنه، لما تكون المسائل المثارة تندرج ضمن نقاش اجتماعي عام، ينتفي ادعاء القدح والذم». ويردّنا إلى مداخلة الخبير في قوانين الصحافة جان إيف دوبو Jean-Yves Dupeux، ألقاها خلال ندوة «العدالة ووسائل الإعلام التي نظمتها نقابة المحامين في بيروت بالتعاون مع الاتحاد الدولي للمحامين، يومي 7 و8 أيار 2013 في بيت المحامي في بيروت». وبالعودة إلى لسان العرب، ينقل نحاس تعريف التشهير على ذمة الجوهري، وهو «الشُّهْرَة وُضُوح الأَمر، وقد شَهَرَه يَشْهَرُه شَهْراً وشُهْرَة فاشْتَهَرَ وشَهَّرَهُ تَشْهِيراً واشْتَهَرَه فاشْتَهَر». لذلك يصبح «الذمّ حقا قانونيا متى تحول التشهير إلى واجب وطني واجتماعي، هذا اقتناعنا وهذا ما نطمح أن تسفر هذه الدعوى إلى إضافته صراحة إلى إسنادات الحكم الذي نرجوه، كي يتم إغناء الاجتهاد وإغناء الديمقراطية». هذا الطلب لم يكن مستحيلاً، خصوصاً في ظلّ وجود اجتهادات قضائية سابقة، ذكّر بها وكيل المدّعى عليه المحامي نزار صاغية في مرافعته. فقد أورد اجتهاداً لمحكمة المطبوعات في بيروت، في هيئتها السابقة المؤلفة من الرئيس لبيب زوين وغادة عون ووائل مرتضى، والتي أجازت دحض قرينة قيام النية الجرمية بإثبات العكس كلما برزت مصلحة اجتماعية من شأنها تبرير التضحية باعتبار الغير.
كما ذكّر صاغية بحكم صادر عن محكمة استئناف بيروت الناظرة في قضايا المطبوعات، قرار رقم 209 تاريخ 19/11/2001 وجاء فيه: «وحيث انه هناك قرينة بقيام النية الجرمية تستخرج من طبيعة الكلام بالذات باعتبار انه يفترض بالفاعل ان يكون عالماً بمعنى الكلام الذي ينشره وبنتائجه الضارة وان يكون قد اراد الحاق الضرر بالمذموم به عندما أقدم على نشره، وأن هذه القرينة تبقى قائمة ما لم يقم الفاعل باثبات وجود وقائع وظروف ذات طبيعة ونوع وقيمة مميزة وأسباب وجيهة وصالحة من شأنها أن تحمل على التسليم بوجوب التضحية باعتبار الغير وشرفه وكرامته من أجل نشر الخبر المتضمن للذم، كما تحمل على التسليم بأن الذم كان ضرورياً ومفروضاً بحكم تلك الظروف والأسباب الوجيهة الاستثنائية والمميزة».
وهذا النص كان قد ورد بالصيغة نفسها تقريباً في حكم صادر عن محكمة استئناف بيروت الناظرة في قضايا المطبوعات، قرار رقم 195 تاريخ 16/5/2001: «وحيث انه هناك قرينة بقيام النية الجرمية تستخرج من طبيعة الكلام بالذات باعتبار انه يفترض بالفاعل ان يكون عالماً بمعنى الكلام الذي ينشره وبنتيجته الضارة وان يكون قد اراد الحاق الضرر بالمذموم به عندما اقدم على فعله، الا أن هذه القرينة تبقى قابلة لاثبات العكس على أن يقع عبء الاثبات هذا على عاتقه،
وحيث أن اثبات العكس يفترض اقامة الدليل على انتفاء قصد الذم والايذاء، أي على انتفاء سوء النية وقيام حسن النية، وذلك باثبات وجود وقائع وظروف ذات طبيعة ونوع وقيمة مميزة وأسباب وجيهة وصالحة، من شأنها أن تحمل على التسليم بوجوب التضحية باعتبار الغير وشرفه وكرامته من أجل نشر الخبر المتضمن للذم، وعلى التسليم بأن الذم كان ضرورياً ومفروضاً بحكم تلك الظروف والأسباب الوجيهة الاستثنائية والمميزة».