ليس من السهل استيعاب ما يجري على أرض الثورات العربية والتقاط مغزى فعل التغيير الجاري العمل عليه. لسنا الآن بصدد انقلابات عسكرية تطيح ذاك الزعيم وتنصّب آخر، ولسنا كذلك بصدد مؤامرة أو توريث كما تعودنا، عبر العقود الفائتة. المسألة هي دخول طرف جديد على المعادلة السياسية، كان غائباً حتى اللحظة.في مقاله «جنون ما بعد القذافي»، يحذّر السيّد إبراهيم الأمين من حلقة جديدة من حلقات الاستعمار الذي «سيحاول إفهام من لم يفهم بأنّ إزالة الأنظمة أو تثبيتها لا يتمّان إلا بأمرنا». وفي نهاية مقاله، يصل إلى نتيجة مفادها «أنّ من الضروري العمل بكل قوة لحفظ سوريا واليمن وبقية بلاد العرب من جرذان فيلتمان».
لا يقدم الأمين جديداً في تحليله، فهو التحليل المكرر لخطاب الممانعة بنسخه المتعددة. ولئن أخذ التحليل طابع الحياد والموضوعية، فهو لا يخرج عن المعتاد والسائد في خطاب الممانعة الركيك. فالأمين لا يزال محكوماً ببنية ذهنية لم يجرِ هدمها بعد أو تجاوزها؛ فمن خلال رصد تحليلاته سنجد أنّه ينتمي إلى تيار الممانعة الذي يقوم على مجموعة من البديهيات، أولها الموقف من الإمبريالية ومواجهة إسرائيل. أما عن كيفية حصول تلك المواجهة والممانعة، فيلتزم الأمين الصمت. هنا يكفي الاعتماد على الخطاب الركيك للأنظمة، كي يثبت أنّها نظم ممانعة. ولكن كيف «مانعت» ومتى؟ الأمين، كما باقي أقرانه، يلتزم الصمت.
نصف قرن من الزمن، والأنظمة الجاري العمل على إسقاطها، لم تتقدم قيد أنملة في تحقيق ما ادعت تحقيقه. إنّنا ننظر إلى الممانعة عبر شقين، لا انفصال بينهما، أي عودة الأرض المحتلة من جهة، وبناء مشروع تنموي قادر على فك الارتباط مع الخارج، من جهة أخرى. بيد أنّ العقود الماضية تكشفت عن فشل تلك النظم في إنجاز أي شيء، فلا الأرض عادت ولا بلداننا تقدمت خطوة، على العكس، أفضت السياسات إلى تحويلنا إلى شعوب فائضة عن الحاجة، تقبع خارج التاريخ. وكنا في كلّ الحالات، ضحايا الأنظمة الفاسدة، وضحايا دعم الخارج لتلك الأنظمة. ما جرى عبر أشهر الثورة هو أنّ الضحية لم تعد تقبل أداء هذا الدور، فجرى تعديل «طفيف» على المعادلة، فالضحية اليوم ترفض أن تستمر في أداء دور فرض عليها. الضحية، الشعوب المنتفضة، بدأت اليوم التحوّل من موقعها في هامش التاريخ، إلى موقع الفاعل. لم نعد ضحايا يا سيدي، والشعوب المنتفضة اليوم «تريد» تقديم إجابات حقيقية عن أسئلة تاريخية عجزت النظم الحاكمة عن تقديمها، لا لشيء إلا لأنّها كانت، ولا تزال عاجزة عن ذلك. لقد مُنحت تلك النظم، السيئة الصيت، فرصتها، وأحداث العقود الماضية أماطت اللثام عن عجزها وذيليتها للخارج، بينما لم يعدُ خطاب الممانعة عن كونه فارغاً، ولم يعد يجدي نفعاً. نعم، لقد تحررت الشعوب من سلطة الخطب الديماغوجية الفارغة، وأسقطت نظم لم يكن لها من شرعية سوى التلاعب بعقول شعوبها وعواطفهم.
ما يثير السخط في خطاب «الممانعة» هو حذفه لأهم ركائز الممانعة، أي الإنسان. كيف يصح لبلد أن يقاوم ويمانع بالاستناد إلى إنسان خائف وجائع ومهان، وأكثر من ذلك، مهزوم؟
اليوم يتخلص الشعب السوري كباقي الشعوب المنتفضة من مهانة الخوف، ويقرر بداية من الصعب تجاهلها. المهزوم اليوم لم يعد مهزوماً، فها هو يقاوم على جبهات عدة، فكيف يصح القول إنّ الشعوب مهزومة، وهي تجسد الآن مفهوم المقاومة على أرض الواقع؟

* كاتب سوري