قطعاً، لن تكون فاطمة ق. (11 عاماً) الضحية الأخيرة لظاهرة تزويج القاصرات. أو بعبارة ألطف، ضحية الزواج المبكر. فبعد فاطمة، ستأتينا أسماء كثيرة عن طفلات زُوّجن في عمر مبكر. لكنها، لن تكون كافية لفهم ما يحصل. ففي قضية الزواج المبكر، التي عززها النزوح السوري، لا تكفي القصص التي تخرج مصادفة إلى العلن لتقدير حجم الظاهرة، فالقصص المختبئة أكثر بكثير. وستظل كذلك في ظل غياب الإحصاءات الرسمية، ما عدا مسح أجرته إدارة الإحصاء المركزي، بالتعاون التقني مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف، حول «أوضاع النساء والأطفال في لبنان»، ويعود إلى عام 2009 (http://www.cas.gov.lb/images/Mics3/CAS_MICS3_survey_2009.pdf).
مسح، على أهميته، إلا أنه يبدو ناقصاً الآن. وما بين 2009 و2014، ثمة فارق شاسع بين نسبة تعود إلى عام المسح ونسبة صارت شيئاً آخر في السنوات التي تلت، حيث ترتفع حالات الزواج المبكر، ولا سيما عند أسر النازحين السوريين والأسر المقيمة التي تعاني من الفقر المدقع.
لكن، قبل الدخول في تفاصيل المسح في ما يخص هذه القضية، ثمة ما يجب التذكير به: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يؤكد أن «من حق كل إنسان أن يوافق على زواجه بشكلٍ كامل لا إكراه فيه، مع الاعتراف بأن القبول لا يكون كاملاً ولا إكراه فيه عندما يكون أحد الطرفين المعنيين غير ناضج وغير قادر على اتخاذ قرار يتعلق باختيار شريك العمر». إلى الإعلان العالمي، ستأتي المادة 16 من اتفاقية «القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة». تلك التي تنص صراحة على الحق في الحماية من زواج الأطفال، بحيث «لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية، بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمراً إلزامياً».
هذا التذكير يفترض أن يكون في رسم الدولة اللبنانية التي تناقض نفسها في مواضع كثيرة، لعل أهمها تحديد سن معينة للانتخابات، إذ لا يجوز لمن لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره أن يمارس هذا الحق لأنه ببساطة لا يتمتع بالأهلية القانونية، فيما يترك سن الزواج بأيدي الطوائف التي يبيح معظمها تزويج القاصر، في سن البلوغ أحياناً. أي في سن التاسعة. وهذا إن عنى شيئاً، فهو يعني انفصاماً. وكي لا يبقى الانفصام قائماً، مطلوب «من الدولة أن تقوم برفع سن الزواج، وعلى الطوائف في هذه الحال أن تلتزم بما تفرضه الدولة»، تقول المحامية ليلى عواضة.
وإلى حين تعي الدولة مسؤوليتها تجاه مواطنيها، سيبقى الزواج المبكر حاضراً. وفي المسح الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي والذي تناول عيّنة من 7560 امرأة، يمكن أن نرى هذا الحضور بالنسبة المئوية لفتيات تزوّجن قبل بلوغهن سن الخامسة عشرة، وأخريات تزوّجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة. بالنسبة إلى الفئة الأولى، يشير المسح إلى أن «2.1% من النساء اللواتي يبلغن (في وقت إجراء المسح) من 15 إلى 49 عاماً قد تزوجن قبل سن 15 عاماً»، في حين تزوجت «13,4% من النساء اللواتي يبلغن (حينها) من 20 إلى 49 عاماً قبل سن 18 عاماً». ومن خلال دراسة للفئتين العمريتين للنساء 15 ـ 49 و20 ـ 49، «هناك 16,7% من النساء في عمر 45 ـ 49 عاماً تزوجن قبل بلوغهن 18 عاماً، مقارنة بـ6,1% من النساء اللواتي يبلغن 20 إلى 24 عاماً». هذا يعني أن سن زواج الفتيات ارتفع بالمقارنة مع السابق، ولكنّ هناك عدداً كبيراً من الفتيات القاصرات يتزوجن أو يتم تزويجهن بعمر مبكر، ومن خلال المشاهدة العيانية للفترة التي تلت تاريخ المسح المذكور، يمكن توقع أن عمر الزواج لدى الفتيات عاد إلى الانخفاض مجدداً.
أين تركزت النسبة الأعلى من الزواج المبكر؟ بحسب المسح، فإن النسبة الأعلى لمن تزوجن قبل سن الثامنة عشرة تركزت في ضواحي العاصمة «حيث بلغت النسبة 10,5%، يليها جبل لبنان 7,7%»، فيما سجل لبنان الشمالي النسبة الأعلى بالنسبة إلى المتزوجات ما قبل 15 عاماً، «حيث بلغت النسبة 3,3%». ولهذا الأمر أسباب، منها «الفقر وحماية الفتيات وشرف الأسرة والحاجة إلى الاستقرار في فترات عدم الاستقرار الاجتماعي، وكل هذه عوامل مهمة تعرض الفتيات لخطر الزواج في سن الطفولة».
ثمة نقطة إضافية هنا، وهي تأثير مستوى تعليم الأم على زواج الصغيرات، إذ تبيّن الدراسة أن «نسبة المتزوجات في عمر أقل من 18 عاماً من أصل مجموع النساء في عمر 20 ـ 49 عاماً، تتدرج بين 19% لمن أمهاتهن أميات، و23,1% لمن أمهاتهن من مستوى تعليمي ابتدائي و9,8% و2% لمن أمهاتهن من مستوى تعليمي متوسط وثانوي وجامعي».
بعيداً عن النسب المئوية، لا بد من التطرق إلى مخاطر هذا الزواج وما سيترتب عليه، إذ يشير المسح إلى أن «تبعات الزواج المبكر حصول العنف، إذ يؤدي الفارق في العمر بين الزوج والزوجة ـــ والذي يزيد في بعض الأحيان عن عشر سنوات ـــ إلى رفع احتمالات العنف الأسري». أما الطامّة الكبرى فهي «ميل النساء اللواتي تزوجن في عمر مبكر إلى الاعتقاد بأن من المقبول أحياناً أن يضرب الزوج زوجته». وفي هذا الإطار، تشير النتائج إلى أن 9,7% من النساء في لبنان يعتقدن بأن للزوج الحق في ضرب زوجته، «وقد كان إهمال الزوجة لأولادها من أهم الأسباب التي تعطي الزوج هذا الحق، حيث بلغت النسبة 7,4%». على أن هذا المؤشر يختلف من منطقة إلى أخرى، حيث إن «ربع النساء في محافظة لبنان الشمالي يعتقدن بأن للزوج الحق في ضرب زوجته لأي سبب كان، أما في قضاءي بعلبك والهرمل، وجبل لبنان، فالنسب منخفضة جداً في ما يتعلق بهذا المؤشر». وربما، هذا الأمر قد يفسر ما يحصل اليوم في شمال لبنان تحديداً، حيث ترتفع نسب الزواج المبكر، وليس أدل على ذلك، سوى الحالات الثلاث التي كان آخرها كافيوتا ص. ابنة الأربعة عشر ربيعاً. قد يبرر البعض ارتفاع المؤشر إلى الفقر و«سترة» الفتاة. ويبدو هذا منطقياً هناك. أما في منطق الدولة، فثمة شيء واحد لا عدول عنه: تعديل سن الزواج ليصبح 18 عاماً، تماماً كسنّ الأهليّة القانونيّة.