نسي العالم عبد السلام جلود كلياً، ولم يكن أحد يستطيع الجزم بما إذا كان الرجل لا يزال على قيد الحياة، أم أنه مات واندثر. والخبر الوحيد الذي تسرب عنه بعد 17 سنة من الاختفاء عن الأضواء كان في مطلع تشرين الأول الماضي، حين نشرت وكالة الأنباء الإيطالية معلومات تفيد بأن العقيد معمر القذافي يعمل على تسليم جلود موقع رئاسة الوزراة خلفاً للبغدادي المحمودي، وهو المنصب الذي شغله جلود في فترة تعد مهمة من تاريخ الحكم في ليبيا، أي ما بين 1972 و1977. وكان الرجل في ذلك الوقت واعداً وصاحب طروحات متقدمة على القائد معمر، الذي بدأ مسيرة مصادرة ثورة الفاتح والتخلص من رجالها الأساسيين.
تعود بدايات ظهور جلود الى الأيام الأولى لثورة الضباط الليبيين الأحرار، حينما رافق القذافي في زياراته إلى مصر وحضر لقاءاته مع الرئيس جمال عبد الناصر. ورغم أنه عسكري وكان برتبة رائد تظهره بعض الصور واقفاً باللباس المدني إلى يسار القذافي بالبدلة العسكرية، وهو يحاول أن ينضوي تحت كتف عبد الناصر ويحاكي قامته العاليه. ومنذ ذلك الحين، ظلت النظرة الى جلود على أنه قريب من القذافي، لكنه يقف الى يساره. ومع أن القذافي كان يخطط لتصفية رفاق الثورة ليصبح الزعيم الأوحد، فإنه قبِل تكتيكياً أن يفسح لجلود مكاناً الى جانبه تحت مظلة الثورة، وغض عنه الطرف، تاركاً إياه يعطي لنفسه موقع الرجل الثاني. ويجمع زعماء عرب عرفوا الرجلين في تلك الفترة على أن جلود كان من الذكاء بأن جنّب نفسه بطش العقيد، فقد أفهمه بطرق شتى أنه لا ينافسه على الزعامة والموقع، وظهر ذلك في سلوك جلود، الذي كان منصرفاً الى الحياة بنهم شديد، وإلى الاهتمام الشديد بالشأن الثقافي ومعاشرة المثقفين، ومد صلات مع أوساط سياسية في الخارج، وهو كان لا يمانع في تجيير ذلك للأخ القائد، الذي راقه الأمر، بعدما لمس مدى أهمية صلات جلود في تلميع صورته داخلياً وخارجياً، لذا صار يكلّفه بمهمّات خارجية من عدن الى موسكو وهافانا وبيروت ومنظمة التحرير الفلسطينة والجزائر وسوريا، وارتبط جلود بصداقات مع زعماء دول وقادة حركات تحرر، ودخل على خط أزمات عربية ودولية، ومن ذلك الوساطة التي قادها خلال الحرب اللبنانية في منتصف السبعينيات، ومحاولاته التوفيق بين سوريا والحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، واخترق جلود حواجز لم يستطع غيره اختراقها، مثل قدرته على كسب ثقة الأطراف المتحاربين في الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية من جهة، والقوات اللبنانية من جهة ثانية، وأن يصبح صديقاً حميماً لكمال جنبلاط وأبو أياد وبشير الجميل في الوقت ذاته، وأن يتنقّل بين شطري بيروت تحت وابل من القذائف في الاتجاهين، كما توسّط في الأزمة التي شهدتها سوريا بين الرئيس حافظ الأسد وشقيقه رفعت في اوائل الثمانينات، وجرى تسريب معلومات، في حينه، أن جلود هو الذي رافق رفعت على متن الطائرة التي أقلته من دمشق، وسلمه صكاً من القذافي بـ 200 مليون دولار.
جلود، الذي يصغر القذافي في السن، كان أحد القليلين من بين المسؤولين الذين أبدوا معارضة لشطحات قائد الثورة، ويروي عنه بعض المسؤولين الذين عاصروه أنه الوحيد الذي كان يجهر بمعارضته للقذافي، ووصفه مندوب ليبيا السابق، وزير الخارجية الأسبق، عبد الرحمن شلقم، بأنه عرف العالم، عكس معمر، سافر وانفتح وجالس وحادَثَ، واتخذ موقفاً من فردية القذافي، ولم يُهمّش كما ساد الظن. ويقول شلقم إن جلود هو الوحيد الذي يصرخ في وجه القذافي ويقول رأيه. في بداية التسعينيات اتخذ موقفاً. هو يتكلم وينتقد ولا يرضى الخطأ وهو رجل دولة. فكل محاولات التطوير والتنمية والنهضة الاقتصادية، التي جرت في السبعينيات، الفضل فيها يعود إلى عبد السلام جلود. شخص لا يقبل الفساد، ويرفع صوته على معمر. ويفسر سبب اعتكافه بأنه عندما رأى أن الأولاد بدأوا يتدخلون انسحب باحترام. وفي مؤتمر في بنغازي، قال للأخ معمر أنت غلطان. كان يريد تنمية ويريد إسكاناً. وقلتها مرة في محاضرة وأنا وزير للخارجية دافعت عن عبد السلام جلود، فالناس اعتبروني مجنوناً، وكتب في الصحف الليبية: «شلقم يدافع عن جلود».
بقي جلود الى جانب القذافي حتى اختفى عن المشهد سنة 1995 كآخر رجل من رجالات الصف الأول في ثورة الفاتح. وروى في أحاديث صحافية قصة خلافاته المتكررة مع العقيد، واضطراره الى الاعتكاف نهائياً، وقال لزمت بيتي، فصار الضباط يأتون إلي ويقولون لي «لماذا تريد أن تُهينه؟ إنك تفرض عليه برنامج الإصلاح فرضاً...، ففكرت، وعرضت عليهم أن يُعلن البرنامج هو بنفسه على أنه برنامجه، وهذا مفيد كي لا يتراجع عنه، إلا أنه رفض وعادوا ليقولوا «كيف يجوز لك أن تُذله بهذه الطريقة؟»، فأجبت بأن هذا هو الحد الأقصى، وأني لا أقبل أيضاً أن يجُرني من رجلي. ويضيف «رغم ذلك فكرت في مخرج فكتبت مقدمة للبرنامج مفادها أن معمر هو الذي كلفني بالاجتماع مع اقتصاديين ومفكرين وطنيين لوضع هذا البرنامج من أجل إعداد ليبيا والوطن العربي للقرن الحادي والعشرين، وأرسلتها إليه فوافق على الفكرة. لكن عندما عقدنا الاجتماع فاجأنا بقوله إن ليبيا ليست في القرن الحادي والعشرين بل في الرابع عشر، وتساءل هل أنه (أي جلود) يفهم أكثر من الشعب؟ ورفض الشق الليبي من البرنامج. أما الشق العربي، فتبناه ضمنياً، إذ أرسل أبو بكر جابر إلى بلدان المشرق، والخويلدي الحميدي إلى بلدان المغرب العربي، حاملين المشروع إلى قادتها، لكن الضباط والجنود أصروا على أن يستمر الحوار فقلت لهم «خلاص... هذا الرجل ليس جاداً، وأنا لن أشارك في التهديم، فسألوني «ما الحل إذاً؟» فكان جوابي أن ليبيا وصلت إلى مرحلة المجازفة، حتى لو كانت غير محسوبة، وأن يجتمع الضباط الأحرار والأعضاء في بيتي ونفرض عليه التغيير، فأجابوا بأنك أنت تستطيع الوقوف في وجهه، أما نحن، فلسنا مُحصنين».
ويصف جلود المحاورة الأخيرة بينه وبين العقيد بالقول «عاد مجدداً يدعوني إلى لقائه في ذكرى الفاتح سنة 1995. واتصل بي هاتفياً فلما رفعت السماعة لم يتكلم فبقيت صامتاً، إلى أن قال «لماذا لا ترد؟»، فقلت له «أنت الذي تطلبني»، وتابع «لماذا لا تُهنئ؟»، يقصد تهنئته بالفاتح، فأجبته «لأنه لم يعد يعني شيئاً لليبيين». فألقى كلمة في مساء اليوم نفسه في سرت قال فيها «من يستقل في العالم الثالث يُقتل ويُعدم، أما نحن، فنعامله كما عاملت روما أبناءها، أي نُقدّره».
السؤال المطروح هل لجلود دور يؤدّيه في ليبيا المستقبل؟ تسليط الأضواء على جلود في تشرين الأول من العام الماضي جرى النظر اليه من طرف أوساط محلية وخارجية على أنه يحمل أكثر من إشارة سياسية، ورأى خبراء في الشأن الليبي أن احتمال توليه رئاسة الوزراء محاولة لدعم جناح أو تيار سلطوي مهيمن في مواجهة تيار آخر. وهناك من جزم بأن نفض الغبار عن جلود يندرج في سياق تلبية رغبات المصالح النفطية الدولية، لإيجاد قوة تنفيذية في إدارة سياسات النفط، وقد يكون بداية لإعادة بناء هياكل السلطة وتوزيع الأدوار بما يتماشى مع متطلبات المرحلة والظروف الدولية. وأبدى خبراء في حينه تقديرات بأن اختيار جلود سيكون بداية مرحلة إصلاح تحتاج إليها ليبيا، وأن شخصيتة يمكن أن تمنح مرحلة التحول بعض الصلابة والمنعة المطلوبة، فهو له مكانة سياسية واجتماعية قوية وتجربة في إدارة الدولة، يصفها كثيرون بالإيجابية، واتسمت عموماً بالانفتاح والفاعلية. وبالتالي فإن الانتقال السلمي المرن من حالة الإقصاء السياسي وغياب مؤسسات الدولة شبه الكامل، وتفشي الفساد في أعلى صوره إلى حالة استقرار وفاعلية كاملة للمجتمع والدولة.
وعن رؤيته لإخراج ليبيا اليوم، قال جلود في أحاديث صحافية بعد خروجه، القوى الوطنية الصادقة والجادة هي الأساس في هذه المرحلة، وهي التي ينبغي أن تشعر بمسؤوليتها، سلاحها الوحيد هو الإخلاص ونكران الذات. ثانياً المسألة ليست أن يتجه كل واحد إلى تأسيس حزب، فينظرون إلى ليبيا كأنها كعكة ناضجة للتقاسم بينهم، وكل واحد يريد أن يفوز بالنصيب الأكبر، إذا فكرنا بهذه الطريقة نكون قد خنّا أرواح الشهداء ودماء الضحايا، وفشلنا. والشعب الليبي داس الخوف اليوم، ولن يستمع إلى هؤلاء.



«حزب الوطن للعدالة والحرية»

عبّر عبد السلام جلود، في إطلالته الإعلامية بعد خروجه من ليبيا، عن عزمه على تأسيس حزب، للمشاركة في الحياة السياسية في ليبيا الجديدة. وقال جلود «هناك مساع في هذا الاتجاه لتأسيس حزب الوطن للعدالة والحرية، على أن يضم أعضاءً من كل الأعمار ومن كافة مناطق ليبيا. تقدمنا في المنطقة الغربية والجنوب وننتظر نتائج الاتصالات مع المنطقة الشرقية». وأضاف «ميزتنا أن القادة سيكونون من الشباب، أي بين 25 و50 عاماً، وإذا ما نجح في الانتخابات المقبلة فسيكون قادة الدولة الجديدة أيضاً من تلك الفئة العمرية، كما أن المرأة بالنسبة إلينا ليست فقط نصف المجتمع، بل أيضاً رافعته وقاطرته، لأن القادة الشباب سيكونون من الجنسين».