سقطت يبرود. لم يُحدث سقوطها ضجّة كبيرة في الإعلام العربي والغربي. كأنما أُريد لهذا السقوط أن يمرّ بأقل ضجة إعلامية ممكنة. الضجيج الإعلامي يُحرج حلفاء المعارضة السورية والمسلّحين. كيف ستُبرر دول كالسعودية وقطر وتركيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها هذا الاختراق الاستراتيجي في صراع المحاور؟ جاء حدثان ساهما في تحويل الأنظار عن السقوط: استفتاء في القرم لمصلحة روسيا، وتفجير إرهابي في البقاع.
يطرح سقوط يبرود بهذه السرعة القياسية جملة من الملاحظات، أبرزها الآتي:
ــــ بات الجيش السوري وحليفه الأبرز حزب الله قادران، ببساطة لافتة وبأقل خسارة ممكنة، على السيطرة على منطقة استراتيجية كيبرود حين يقرران ذلك.

هذا يعني أن استراتيجيتهما القتالية تطوّرت على نحو كبير في العام المنصرم. يعني، أيضاً، أن هذا التطور ينذر باحتمال السيطرة قريباً على مناطق أخرى في سوريا. هذا سيحدث.
ــــ باتت الجماعات والكتائب العسكرية الأخرى في وضع معنوي صعب. ساهم في الأمر اقتتال هذه الجماعات لأشهر طويلة قبل يبرود، والعجز عن توحيد قيادة عسكرية، واشتداد عصب الجيش السوري، وانحسار البيئة الحاضنة التي باتت تريد عودة الدولة، واختفاء الفساد لدى بعض ضباط الجيش السوري. فساد ساهم في بداية الحرب السورية بتسليم مناطق ومستودعات كاملة.
ــــ ثمة تخلٍّ أميركي سيزداد في المرحلة المقبلة عن هذه الجماعات المسلحة لثلاثة أسباب، أولها العجز عن إسقاط النظام بالقوة، وثانيها القلق الكبير من الإرهاب الذي استحكم بالمسلحين، وثالثها عدم الثقة بالدول المموّلة لجهة التمييز بين الإرهابي وغير الإرهابي. فضلاً طبعاً عن رغبة واشنطن بعدم قطع خيط التفاوض والتقارب المهمين مع إيران.
ــــ مبادرة السعودية إلى وضع «النصرة» و«داعش» و«القاعدة» على لوائح الإرهاب ساهمت في تشتيت المسلحين وزرع البلبلة بينهم وارتفاع منسوب القتال. كانت الرياض راغبة في سحب ورقة محاربة الإرهاب من يد السلطة السورية وإيران وحزب الله، فإذا بها تضعف القدرات القتالية للمسلحين وتزعزع معنوياتهم.
ــــ الاشتباك السعودي ــــ القطري الذي انتهى بسحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر، وإدراج الرياض جماعة «الإخوان المسلمين» على لائحة المنظمات الإرهابية، أحدثا بلبلة في صفوف معارضة الخارج التي كانت تمر عبرها عمليات التمويل والتسليح. ما يتسرب عن اجتماعات المعارضة يوضح حجم التباغض وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الخسارة.
ــــ إرسال قطر إشارات إلى احتمال تغيير الرياح حيال سوريا والتقارب الكبير مع إيران، جعلا «جبهة النصرة» وبعض التنظيمات المسلحة التي قيل إنها قريبة من الدوحة تعتقد أنها باتت بلا غطاء ولا تمويل. بدأ قسم من الجهاديين يعودون إلى بلادهم أو يهربون من ساحات القتال لمجرد رؤية جنود الجيش السوري أو مقاتلي حزب الله.
ــــ نجاح إيران في جذب تركيا صوبها، إضافة إلى الأزمات المتلاحقة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الداخل، بدأ يلقي بظلاله على الدور التركي الفاشل في سوريا. كان من نتيجة ذلك أن الجيش التركي صار يضيّق الخناق على المقاتلين السوريين الموسومين بالإرهاب. ثمة معلومات عن أن الأمن التركي بدأ يضرب بعض العابرين عبر حدوده، حتى ولو لم تثبت ضدهم تهمة الإرهاب.
ــــ التحوّل الإعلامي والسياسي الدولي صوب أوكرانيا جعل الجيش السوري وحلفاءه يشعرون بأن الفرصة مناسبة لتسريع وتيرة الحسم من جهة، كذلك إن المعلومات المسرّبة من مقربين من الرئيس فلاديمير بوتين توحي بأن الرجل صار يرى في ورقة الحسم العسكري في سوريا سنداً له في معركته في القرم.
من المفترض، وفق الاستراتيجية العسكرية السورية، أن تستمر وتيرة إسقاط المناطق الكبرى على نحوها الراهن. سيكون ذلك بعمليات عسكرية نوعية كالتي شنها الجيش السوري وحزب الله، أو عبر مصالحات وعمليات استسلام. القرار المركزي هو السيطرة على المناطق الكبرى والاستراتيجية قبل الانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل.
إذا كان البعض يرى في إسقاط يبرود ومناطق القلمون مشروعاً تقسيمياً عبر ربط الساحل السوري بدمشق، فإن خريطة المعارك المقبلة تناقض ذلك. حلب مقصودة بالخطط المقبلة، وكذلك دير الزور، وغيرهما. لا رغبة في إجراء الانتخابات الرئاسية من دون حلب.
بناءً على ما تقدّم، تبدو المنظومة العسكرية للمسلحين في وضع صعب، والغطاء الدولي والإقليمي في وضع أصعب. لكن السؤال الأخطر المطروح حالياً: ماذا ستفعل إسرائيل بعدما رأت أن تحالف إيران وسوريا وحزب الله وحلفائهم ضَمِن لجيوش هذه الدولة ومقاتليها قدرة عالية على القتال في مناطق صعبة أو في غير أرضهم المعهودة؟
لا شك في أن إسرائيل وحلفاءها أكثر القلقين، ذلك أن الحسم العسكري في سوريا يعني، أولاً، انتصاراً لمحور المقاومة من إيران إلى الضاحية الجنوبية، وثانياً إن إسرائيل ستكون في مواجهة جيوش ومقاومات لم تعهدها من قبل.
تحرّشت إسرائيل قبل فترة بسوريا وحزب الله لرصد احتمالات الرد. جاءها الرد من قلب فلسطين عبر صواريخ الجهاد الإسلامي المدعوم إيرانياً ثم من حدود لبنان. كانت الرسالة واضحة: نقل المعركة مجدداً إلى قلب إسرائيل قائم إذا ما سعت إلى قلب التوازن العسكري على الأرض السورية.
بهذه المعاني، بالضبط، كانت معركة يبرود استراتيجية بامتياز ،حتى ولو أن بعض الرد عليها سيكون عبر عمليات إرهابية في لبنان وسوريا. القيادة السورية تقول إن ما قبل يبرود ليس كما بعدها.