«العقارات التي يقوم عليها مبنى مدرسة «ليسيه عبد القادر» التراثي معروض للبيع بقيمة 160 مليون دولار». هذه هي الخلاصة التي لم تتجرّأ سلوى السنيورة بعاصيري، المديرة العامة لمؤسسة رفيق الحريري، على البوح بها خلال الاجتماع مع أهالي الطلاب المخصص للبحث في مستقبل هذا الصرح التربوي التاريخي. فضّلت إخفاء المعلومات قدر الإمكان، وحاولت تمرير تبريرات لم تُقنع أحداً من الاهالي الحاضرين، قالت: «المدرسة ستنتقل الى خارج العاصمة بيروت لتحسين مستواها وتطويره».
بذلت إدارة مؤسسة الحريري بالتعاون مع فرع المعلومات جهوداً كبيرة لمنع تصوير الاجتماع من قبل الاهالي، إلا أن صوت الأهالي وهتافهم في نهاية الاجتماع نجحا في إيصال مطالبهم: «نريد الحقيقة لا التبريرات الواهية».
امتلأ مسرح المدرسة بذوي الطلاب الذين حضروا لمعرفة مصير أولادهم التربوي، ومصير مدرسة «لم يتخيّلوا أبداً بيروت من دونها»، بحسب ما عبّر أحد الحاضرين. دخلت «الأخبار» خلسة إلى القاعة، ونجحت في نقل محضر الاجتماع، رغم التفتيش الدقيق والاستجواب من قبل فرع المعلومات الذي اعتقد أنه صادر الصور والفيديو المسجّل.
مُنعت وسائل الإعلام من حضور الاجتماع، وهو بدأ بكلمة ممثل لجنة الأهل حسّان إبراهيم، ذكّر فيها بما تمثله المدرسة من «ذاكرة أجيال وأجيال تربّوا بين جنبيها»، داعياً إلى الحفاظ على هذا الإرث، ومناشداً الأهل والطلاب الوقوف معاً «لمنع التفريط بهذا الإرث، وللمحافظة عليه».
الاجتماع بين الأهالي ومؤسسة الحريري بحضور المديرة الفرنسية للمدرسة إيزابل نغريل جاء بعد معلومات انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام تشير الى إمكان انتقال المدرسة الى خارج العاصمة، وقامت على اثره لجنة الأهل بالتواصل مع الوكالة الفرنسية للتعليم AEFE (الشريك الفرنسي في إدارة المدرسة)، وتم التواصل أيضاً مع مؤسسة الحريري، وعقدت سلسلة لقاءات واتصالات مع الإدارتين المعنيتين اللتين حاولتا «كسب الوقت» وتأجيل التصريح حيال مصير المدرسة التي سيجري نقلها خلال مهلة أقصاها خمس سنوات خارج بيروت، وتحديداً إلى منطقة المشرف.
لم تُرد بعاصيري أن تبدأ بالكلام وبالإجابة عمّا طرحته لجنة الأهل. طلبت من الحاضرين التعاطي بموضوعية وعقلانية مع المسألة ومن دون انفعال، معتبرة أن اللقاء «ليس لاستعادة ما تم الحديث عنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي» بل من أجل «الانطلاقة من نقطة الصفر»، وفضّلت إعطاء الكلام للأهالي ومداخلاتهم، فاستغربوا طلبها، فهم من يطلبون إجابات عن أسئلتهم، وليس العكس. سيطر الإرباك على الأجواء؛ ما هو مستقبل ليسيه عبد القادر؟ هل ستنتقل المدرسة؟ متى ستنتقل وإلى أين؟ لمَ تنوي مؤسسة الحريري نقل المبنى؟ هل بيع؟ ما هو مستقبله؟ أسئلة كثيرة انتظر الأهل إجابات عنها، لكن ذلك لم يحصل بسبب تهرّب بعاصيري من الإجابة بشكل مباشر عن أيٍّ من الأسئلة.
رغم ذلك، أصرّ الأهل على إيضاح وجهة نظرهم. كثرت المداخلات نتيجة مراوغة بعاصيري ومحاولتها تبسيط المسألة، فبدا الانفعال حاضراً على وجوه جميع من في المسرح، «مطلب الحاضرين هو الإبقاء على المدرسة مكانها»، يقول أحدهم، طالباً أن تحال المسألة على عائلة الحريري لتعيد النظر في القرار. البعض استذكر تاريخ المبنى الذي تعلم فيه: «تربّينا هون وعم نربّي ولادنا هون»، آخرون تحدثوا عن صعوبة إرسال أولادهم بعيداً عن بيروت بسبب الأوضاع الأمنية. سألوا عن السبب الذي دفع بالحريري عام 1985 لشراء المبنى الذي أراد له أن يكون مؤسسة تربوية، «وإلا كان اشترى العقار دون تخصيصه كمدرسة». تكررت التساؤلات وعلامات الاستفهام عن الأهداف التجارية وراء نقل المبنى وبيع العقارات.
استمعت بعاصيري إلى ما رفضت بداية سماعه بهدف إنكار «ما يجري تداوله عبر التواصل الاجتماعي»، لكن محاولة بعاصيري لإيجاد تبرير مقنع لقرار يمحو جزءاً من ذاكرة بيروت باءت بالفشل. قالت إنها «تتفهم عواطف الأهل» و«التعلق بجمالية المبنى»، ولكنها تجاهلت تاريخ المبنى وواقع أنه من المعالم التي تقبع في ذاكرة بيروت، فرأت أن تعلق الأهل والتلاميذ هو «بالمؤسسة التربوية التي استطاعت أن تثبت كفاءتها ولا دخل للمبنى بذلك». ونفت أن يكون المبنى قد بيع حتى اللحظة، لكنها لم تقل للحاضرين إن هند رفيق الحريري تبيع معظم العقارات التي تملكها، وستعرض عقار الليسيه عبد القادر للبيع بمبلغ 160 مليون دولار.
تحدثت بعاصيري عن صعوبات تقنية داخل المبنى تعيق عملية تطويره وتحسينه، من دون تحديد هذه الصعوبات، والحاجة إلى مبنى جديد. في كل مرة كانت بعاصيري تجيب بما هو «غير منطقي وغير مقنع»، بحسب تعبيرات الأصوات الصاعدة من القاعة. سألها أحد الحاضرين عما إذا كان مستوى المدرسة في السابق متدنياً وهو بحاجة إلى تحسين؟ رمت عندها الكرة إلى المديرة الفرنسية التي أجابت بأن المدرسة بحاجة إلى أن يبنى فيها مقهى أوسع وأكبر للطلاب. اعترى الغضب الأهالي، ومنعوها من أن تكمل كلامها. المديرة الفرنسية بدت متناغمة مع بعاصيري، أو على الأقل غير مكترثة بمصير المبنى أو مطالب الأهالي، والأهم أن إجابتها أطاحت أي فرصة لإقناع الأهالي بأن الهدف فعلاً هو تحسين مستوى المدرسة وتطويره.
الاستخفاف بعقول أهالي الطلاب الحاضرين لم ينجح، فطرحوا أيضاً الحلول التي تحول دون الانتقال الى مبنى جديد. طالبوها بأن يتم فتح فرع جديد للمدرسة من دون التخلي عن الأساس. هذا الخيار اعتبرته بعاصيري «تجزئة» للمدرسة. الأهالي المتمسكون بمبناهم ومبنى أبنائهم وحتى أحفادهم كما يقولون، طلبوا من مؤسسة الحريري أن تقوم بعرض المبنى في المزاد العلني لأي متموّل يريد أن يستثمر في القطاع التربوي ويبقي على الشراكة القائمة مع الوكالة الفرنسية للتعليم والبعثة العلمانية الفرنسية.
خرج الأهالي من الاجتماع، اعتصموا في الخارج مع التلاميذ وهتفوا ضد قرار الانتقال إلى خارج بيروت، وقرروا الإبقاء على اجتماعاتهم مفتوحة، وقرروا طرح قضيتهم على جميع المعنيين، ولا سيما عائلة الحريري. وإذا لم يتم التوصل إلى حل للحفاظ على المبنى، فالأهالي أبدوا استعدادهم للإضراب المفتوح.

يمكنم متابعة حسين مهدي عبر تويتر | @Husseinmehdy




تاريخ المدرسة

هي إحدى أعرق مدارس بيروت. أسّستها البعثة العلمانية الفرنسية مطلع القرن العشرين في منطقة زقاق البلاط في قلب بيروت. اشتراها رفيق الحريري عام 1985، دون إغلاقها، وعهد إلى مؤسسة الحريري مسؤولية إدارتها بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية (الوكالة الفرنسية للتعليم) والبعثة العلمانية الفرنسية بموجب اتفاق خاص ما زال قائماً. قامت المؤسسة بترميم أبنية المدرسة التراثية وبتجديد تجهيزاتها وتحديث مختبراتها، كما أضافت إليها مباني جديدة تستوعب مزيداً من التلامذة. ومن أبرز أبنية مدرسة ليسيه عبد القادر التراثية فيلا من ثلاثة طوابق بُنيت على الطراز اللبناني التقليدي، وبترميمها أصبحت واحدة من أبرز الأبنية التراثية في بيروت، وهي مصنّفة ضمن لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية.