يحزمون الأمتعة جماعات وفرادى. في بالهم أسواق العمل الغنية والفرص الذهبية التي، إن لم تحالفهم مباشرة، قد تُغني حيوات أبنائهم وسلالتهم من بعدهم بعيداً عن أي حزن أو مأساة أو فقر تركوه في الأرض التي هجروها. إنّهم المهاجرون الذي يجوبون الأرض بمعدّلات متزايدة مع ازدياد الفروقات الاجتماعية ومعها الأحلام بالازدهار. طروحات كثيرة تقارب أوضاعهم وآفاقهم، آخرها دراسة إحصائيّة أعدّها ثلاثة باحثين في معهد ويتغنستاين النمساوي، ترصد أنماط الهجرة وحركاتها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، مع تقسيمها إلى مراحل من خمس سنوات.

تؤكّد أرقام هذا البحث خلاصات كثيرة في بال العلماء والمراقبين العاديين لأحوال العالم. خلال الفترة بين عامي 2005 و2010، كانت أوروبا أكثر الأقاليم استقبالاً للمهاجرين. أكثر من 8.92 ملايين مهاجر حطّوا رحالهم في القارة العجوز. أبرز التيارات البشرية هنا مصدره أميركا اللاتينية تليه الهجرة من جنوب آسيا. ولكن اللافت هو أنّ الحراك البشري الأكثر حماوة في هذه القارة هو تماماً كما في الحالة الأفريقية، ذات طبيعة محلية: أكثر من خِمس حركة الهجرة الإجمالية المسجلّة في البلدان الأوروبية هي لمواطنين يتنقلون من بلد أوروبي إلى آخر: عادةً تكون تلك الحركة من بلدان الشرق والجنوب إلى الغرب الغني الذي تعلو فيه الأصوات الرافضة للوحدة الديموغرافية والداعية لسياسات جديدة تحكم حركة البشر في الاتحاد الأوروبي المنتكس.

تتصدّر الولايات المتّحدة البلدان المستقبلة المهاجرين وتُعدّ الهند البلد الأكثر تصديراً للبشر




المنطقة الثانية على مستوى استضافة المهاجرين في الفترة المذكورة كانت أميركا الشمالية. أكثر من 7.6 ملايين مهاجر أتوا من خارج الولايات المتّحدة وكندا ليستقروا في هذين البلدين. أحد أبرز التيارات البشرية التي تجعل هذا الرقم ضخماً، هو تدفّق المهاجرين المكسيكسيين إلى الولايات المتّحدة؛ لقد تجاوز عدد هؤلاء 1.8 مليون خلال الفترة المذكورة وكان أكبر معدل هجرة بين بلدين على الإطلاق في العالم.
أما اللافت في البحث فهو أنّ منطقة غرب آسيا التي ينتمي إليها لبنان والتي تُعد إحدى أكثر الأقاليم المعرضة للصراعات والبراكين السياسية والعسكرية، كانت ثالث أكبر مستقبل للمهاجرين خلال الفترة المذكورة. السبب: بلدان الخليج العربي الغنية بالنفط إنما الفقيرة ديموغرافياً. تُفيد البيانات بأنّه من إجمال 6.73 ملايين مهاجر إلى المنطقة، 4.6 ملايين حضروا من جنوب آسيا التي تُعدّ خزّان قوّة العمل الأساسية لبلدان مجلس التعاون الخليجي (وتُعد أيضاً المصدر الأول للمهاجرين في العالم بأكثر من 9.76 ملايين نسمة). ولإعطاء فكرة عن هذه الحركة البشرية الكثيفة يُشار فقط إلى هجرة العمال الهنود إلى الإمارات العربية المتّحدة والتي تُقدّر بـ1.1 مليون نسمة خلال الفترة المذكورة، وتُعدّ ثاني أكبر حركة هجرة بين بلدين على مستوى العالم (راجع الجدول المرفق).
أنماط الهجرة هذه عادة تعكس حراكاً بشرياً نحو مستويات أرفع من العيش. ولنكن أدقّ، يتطلّع العمال وأرباب العائلات إلى آفاق جديدة يأملون ألا تكون شرفات فقيرة لدى دخولهم إلى أوطان جديدة. ولكن حالة الهجرة الكثيفة من آسيا إلى الخليج تُخفي في حالات كثيرة ممارسات استغلال إلى حدود الاستعباد، كما يحصل مع العمال النبياليين مثلاً في المشاريع الخاصة بالبنى التحتية التي يجري تنفيذها في قطر تحضيراً لدورة كأس العالم في كرة القدم المرتقبة بعد ثماني سنوات.
ولننتقل إلى حالة لبنان. يُسجّل البحث استقباله 87 ألف مهاجر ووتصديره 99 ألفاً خلال الفترة المذكورة التي جمعت في بداياتها الاضطرابات والاغتيالات وفي نهاياتها العز السياحي. هذا يعني أن صافي الهجرة هو 13 ألف مهاجر تركوا البلاد. وإذا كان هذا الرقم رمز نحس في العديد من المعتقدات الشعبية، هو فعلاً يعكس معضلة الكيان اللبناني الهجين الذي لم يكف عن تصدير المهاجرين منذ القرن التاسع عشر، وأخيراً استقبل اللاجئين السوريين بعديد فاق المليون نازح لتتعقد أكثر مشكلته الديموغرافية.
عموماً، تتصدّر الولايات المتّحدة لائحة البلدان المستقبلة المهاجرين إذ تدفّق إليها قرابة 6.4 ملايين مهاجر خلال الفترة المذكورة، وصدّرت ربع هذا الرقم تقريباً. وراءها مباشرة تحلّ الإمارات العربية المتّحدة بأكثر من ثلاثة ملايين مهاجر وافد، ثمّ تبرز إسبانيا التي استقبلت أكثر من 2.4 مليون نسمة في السنوات المدروسة.
في المقلب الآخر، تُعدّ الهند البلد الأكثر تصديراً للبشر، إذ هجرها أكثر من 3.6 ملايين نسمة في الفترة المذكورة، بعدها تحلّ بنغلادش بعدد يقارب الثلاثة ملايين مهاجر ثمّ الصين وباكستان بأكثر من مليوني مهاجر من كلّ منهما.

يمكنكم متابعة حسن شقراني عبر تويتر | @HassanChakrani