زحف سوريون في لبنان إلى سفارة بلادهم في اليرزة، مع الشمس الأولى لصباح أمس. كانت الرّقة ودير الزور والحسكة ودرعا وحلب واللاذقية والسويداء حاضرة على أغلب الطرقات المؤديّة إلى وزارة الدفاع اللبنانية، بلهجات السوريين المقبلين لانتخاب رئيس جديد. أعلام سوريا وصور الرئيس بشّار الأسد تكاد تنافس أعداد العمال والمقيمين والنازحين الذين لبّوا دعوة السفارة للاقتراع.
المشهد كان أكبر من حجم التوقّعات بكثير، للسفارة وحلفاء سوريا في لبنان والأجهزة الأمنية اللبنانية، كما لقوى 14 آذار، التي عادت إلى نغمة ما بعد 14 شباط 2005، متعامية عن ادعائها التعاطف المؤقّت مع الشعب السوري منذ بداية الأزمة.
من السان تيريز، إلى الحدث، إلى طريق الشام الدولي والشوارع الفرعية في بعبدا والحازمية واليرزة، ضاقت الأزقة بالسوريين حتى ساعة متأخرة من الليل. ومن استطاع الوصول إلى مدخل السفارة، بالكاد وصل إلى الطابق الأول حيث تولّى موظفو السفارة تسجيل أسماء الناخبين، للإدلاء بأصواتهم.
صورة الحشود على شاشات التلفزة لا تقارن بتلك التي تمنحها العين المجرّدة. إذ فاق الاكتظاظ عند ساعات الظهر قدرة مبنى السفارة ومحيطها على الاستيعاب، ما سبّب حالات إغماء عديدة بين جموع الحاضرين، ناخبين وإعلاميين ورجال أمن وعاملين في السفارة. محمد، 25 عاماً، يعمل في محطّة وقود على طريق المطار ويقطن في الجناح، أتى إلى هنا سيراً على القدمين، بعد أن نزل مع زملائه من «الفان» على مستديرة الصياد، واضعاً حول عنقه علم بلاده. «جيت انتخب السيد الرئيس بشار الأسد»، يقول محمد، وبالمناسبة العشريني وأغلب زملائه من محافظة الرّقة. ليش الأسد؟ «لأنو عإيام الأسد وقبل الثورة كانت الرقة أحلى من بيروت»، يقول محمد. علي، سوري آخر طالب في الجامعة اللبنانية من محافظة درعا، أتى أيضاً ليختار الأسد، مقيم في منطقة رأس بيروت. هل سمعت عن مرشّحين آخرين؟ «طبعاً، النوري والحجّار، لكنّي سأنتخب الأسد، هوي قائد الجيش، والجيش رح يرجعني على درعا، ما جيت على لبنان بخاطري، هربت أنا وأهلي».
الشقيقان جوزف وإسحاق، من مدينة حلب، يعملان في أحد الملاهي الليلية في جونية، ويقطنان هناك، وأيضاً، «إجينا غصب عنّا على لبنان، بعد أن دمرت داعش بيوتنا». اتكأ الشابان على حائط الباحة الخارجية للطابق الأول، وانتظرا دوريهما كآلاف القادمين للاقتراع. وحين وصل إلى مبنى السفارة عددٌ لا بأس به من السوريين الذين تعرّضوا للضرب على أيدي قوات الأمن اللبنانية، همّ الشابان وعددٌ آخر من الحاضرين إلى تطييب خاطرهم، «معليش، إذا نحن داق خلقنا، كيف العسكر، طوّلوا بالكن يا شباب». لا شكّ ترك تعرّض الناخبين للضرب على أيدي بعض عناصر الجيش اللبناني الكثير من الغضب في نفوس الناخبين الآخرين. ولبعض الوقت، تفاعل الأمر بين الناخبين بشكلٍ كاد يهدّد سير العملية الانتخابية، قبل أن ينزل السفير السوري علي عبد الكريم علي بين الحاضرين ويهدئ من روعهم، وتتولّى دوائر السفارة التواصل مع الأجهزة الأمنية لاستيضاح الأمر. من جهتها، أكدت مصادر السفارة لـ«الأخبار»، أن ما حصل «لا يعبّر عن موقف سياسي، بل بسبب قلة التنظيم التي سببتها الحشود، وعدم قدرة العناصر الأمنية على تنظيم دخول هذا العدد الهائل من الناخبين وتفتيشهم وفقاً للإجراءات الأمنية اللازمة».

عدد الذين سجّلوا أسماءهم للاقتراع منذ بداية شهر أيار وحتى 18 منه بلغوا 125 ألفاً

بدا يوم أمس يوم استفتاء للرئيس السوري بشار الأسد، أكثر منه يوماً لانتخابات عادية. فبعض السوريين هنا اقترع بـ«الدّم» كما كان يحصل في السابق. ليلى المهجّرة من منطقة السبينة (ريف دمشق)، لم يشغلها حمل ابنتها الصغيرة عن البحث في حقيبتها عن «دبّوسٍ» لزوجها حسن، لوخز إصبعه واختيار اسم الأسد من بين المرشحين. الجيش السوري لم يكن غائباً أيضاً، فلا تكاد تنهي مجموعة من السوريين الهتاف «الله محيي الجيش السوري»، حتى تبدأ مجموعة أخرى بتكرار الهتاف.
الحال في أقلام الاقتراع أفضل بقليل من الباحات الملأى بالناس. سجّل الوافدون أسماءهم بداية عند الموظّفين، الذين يقارنون اسم الناخب باللوائح التي أعدت مسبقاً منذ بداية شهر أيار للناخبين السوريين في لبنان. يتسلم الناخب الظرف المختوم من قبل وزارة الداخلية السورية، ثمّ ينتقل إلى خلوة الاقتراع السّري ليختار من اللائحة اسماً من ثلاثة: ماهر الحجار، حسّان النوري وبشار الأسد. ومع ازدياد الازدحام، سادت أقلام الاقتراع حالة من الفوضى، قبل أن يعيد الموظفون والأمنيون فرض الهدوء في الداخل.
مصادر السفارة تؤكّد أن عدد الذين سجّلوا أسماءهم للاقتراع منذ بداية شهر أيار وحتى 18 منه، بلغوا 125 ألفاً، يحقّ لهم الاقتراع لخروجهم من سوريا بطريقة نظامية وحيازتهم الهوية السورية أو جواز سفر. لم تكن المدّة الكافية لتسجيل الأسماء، لذا عمدت السفارة إلى تمديد المهلة حتى يوم الاثنين الماضي، «ولم يكن الوقت كافياً أيضاً، إذ بلغ عدد الذين يحقّ الانتخاب نحو 200 ألف».
هذا لا يعني أن السفارة كانت تتوقّع أن يأتي هذا العدد الكبير من الناخبين، إذ اقتصر عمل السفارة على تسجيل أسماء الناخبين في بيروت وجبل لبنان والجنوب، حتى الكورة، من دون «طرابلس وعكّار، لنوفّر على الناس التهديدات الأمنية التي يمكن أن تواجههم في المنطقتين إذا أرادوا الانتخاب». وليلاً، أكّد السفير علي أن عدد المقترعين أمس تجاوز الـ80 ألفاً، ومدّدت مهلة الاقتراع حتى منتصف ليل اليوم الخميس.
وعلى الرغم من التهديدات الأمنية والضغوط السياسية التي رافقت عملية الانتخاب، وعدم توافر وسائل نقل كافية للسوريين الراغبين بالاقتراع، «شكّل الحشد مفاجأة»، تقول مصادر السفارة. إذ لم تؤمّن السفارة النقل، بل عمد عدد من المتموّلين السوريين المقيمين في لبنان إلى تأمين عدد محدود من الباصات لنقل الراغبين، فيما تعاون عدد كبير من السوريين على استئجار وسائل نقل عامّة من الجنوب وبيروت إلى السفارة.
مصادر متابعة في قوى 8 آذار، تقول لـ«الأخبار» إن «الإعلام صوّر العمال السوريين والنازحين إلى لبنان على أنهم معارضون للنظام، وهذا غير صحيح، فبين النازحين من هم معارضون وموالون. بالإضافة إلى أن المزاج السوري العام في لبنان تحديداً، تغيّر خلال العام الماضي كثيراً، لعدّة أسباب». وتقول المصادر إن «الانتصارات التي يحقّقها الجيش السوري وانكشاف المعارضة السورية أمام السوريين والعالم أعادا الناس إلى كنف الدولة، وما حصل في الدول العربية، وخصوصاً في لبنان، هو من علامات انتصار خيارات النظام، ويثبت أن الشعب السوري خياره الدولة أوّلاً وأخيراً، فضلاً عن مآسي النزوح إلى دول الجوار، وتحوّل النازحين إلى مادة للشحاذة من هنا وهناك».
ويختم المصدر بالقول: «ما حصل كسّر أوهام البعض، بتحويل النازحين في لبنان إلى ورقة أمنية ضاغطة على المقاومة في المستقبل».