زياد عبس*«أنا جنوبية من الذين تهجروا الى اسرائيل عام 2000. جئت الى هنا خوفاً من تهديدات السيد نصر الله. جئت مع عائلتي مذ كنت صغيرة لكنني أحب أن أعود الى بلادي. لا استطيع العيش هنا. فمنذ ست سنوات وأنا أحلم بيوم العودة، أتمنى أن تساعدونا على العودة، وأتمنى لكل غائب عن وطنه أن يعود اليه يوما ما».
كتبت ميليسا، ابنة بلدة عين ابل، هذه الرسالة وأرسلتها في العشرين من ايار عام 2006، الى اللجنة المشتركة لمتابعة قضية «اللاجئين الى اسرائيل»، التي انبثقت عن ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله.

بعيدا من السجال المرافق لزيارة البطريرك بشارة الراعي للأراضي المحتلة، وبعيدا من كيفية مقاربته لقضية «اللاجئين الى اسرائيل»، فلنعترف بأن ما أعاده الراعي الى الواجهة، ليس الا ملفا شائكا سقط عمدا من حسابات الدولة اللبنانية. بين كلام الراعي الذي عمّم براءة من فروا الى الاراضي المحتلة، والكلام الآخر عن تخوين البطريرك وتعميم تهم العمالة لمن فرّوا أيضا، تصبح الضرورة قصوى لسرد حقائق سقطت مراراً من الذاكرة اللبنانية المثقوبة، حرصاً على عدم التعميم في الحالتين، في التجريم أو في البراءة.
بعدما تُرك الجنوب تحت سيطرة المجموعات الفلسطينية، تخلّت الدولة اللبنانية عن مناطق جنوبية بينها منطقة جزين، وتولى مسؤوليتها هناك «جيش لبنان الجنوبي»، الذي أمّن لإسرائيل جداراً طيباً بعد اجتياحها الليطاني عام 78. حوصر الجنوبيون بين العدو وحليف العدو، ووضعوا بين خيارات أهونها شرّ مطلق. بعد اجتياح عام 82، رسخت اسرائيل احتلالها مكرسة سلطة «جيش لبنان الجنوبي».
تخلت الدولة اللبنانية عن مواطنيها. سقطت المنطقة وأهلها في قبضة سلطة الأمر الواقع. فاختار بعضهم العمل في وظائف مدنية، وبعضهم الآخر اختار الوظائف العسكرية، وتحول عدد منهم الى مجرمي حرب.

ترشح للرئاسة من
تعامل مع العدو وتحول من قاتلوا معه الى رؤساء كتل مرجحة
عشية التحرير، في الثالث والعشرين من ايار عام الفين، يوم وجد آلاف الجنوبيين في التحرير خلاصاً لهم وسبيلاً لعودتهم تحت سلطة الدولة، قابلهم الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بخطابه الشهير «اما أن يسلموا انفسهم للدولة اللبنانية، او أن يرحلوا مع جيش الاحتلال، او سنأتي اليكم ليس للسلام. نحن آتون اليكم بالبنادق... سنذبحهم في أسرّتهم».
لم يكن خطاب نصر الله جذاباً لعودة هؤلاء الى كنف الدولة، وحتى الى قضائها للخضوع للمحاكمات. فالخطاب يومها مثل ارهاباً نفسياً لم يفتح طريقهم سوى الى «اسرائيل». بعض العائلات هرب لأن أحد أفرادها تعامل مع العدو، بعضها هرب بعدما أفقدها الارهاب النفسي ثقتها في أي محاكمة عادلة، وبعضها هرب لأنه مجرم ومتعامل ومجرم حرب حقاً، لكن الجميع، لم يكن بموقع الادراك حتماً، بأن حفلة الترهيب هذه، لن تتبعها عمليات تصفية حقيقية.
ذهبت يومها ميليسا ورفاقها والعائلات آملين ايجاد الآلية المناسبة ليعودوا بعد أيام قليلة. سقطت آمالهم هناك، بعدما اكتشفوا أن العمالة لاحقتهم حتى أصغر أطفالهم. أصاب التعميم قضية ثمانية آلاف لبناني فرّوا يومها الى الاراضي المحتلة. قسم منهم عاد الى لبنان، وقسم آخر هاجر الى خارج «إسرائيل». وبقي ما يقارب الفين وستمئة في الاراضي المحتلة، قبل أن يتكاثروا هناك بطبيعة الحال. جرّمت الدولة من بقي هناك حتى لو كان مولوداً جديداً، متذرعة بـ«جرم دخول اراضي العدو»، ليصبحوا سواسية مع القتلة والعملاء ومجرمي الحرب.
عندما أعلن البطريرك الراعي نيته زيارة الاراضي المحتلة، لم يكن حينها صعباً توقع نيته اثارة قضية «الفارين الى إسرائيل». وبدل أن يخلق ذلك نقاشاً جدياً بكيفية معالجة مشكلة وطنية ترتقي الى مستوى مشاكل الأمن القومي للبلاد، ذهب البعض ليعبر عن مواقف لا تسهم سوى في زيادة الهوة مع الحل.
حرصاً منّا على مقاربة واضحة لمعالجة هذه القضية، وتأمين محاكمات عادلة لكل فرد منهم، كان للعماد ميشال عون كلمة في أول جلسة لمجلس النواب في تموز 2005 قال فيها: «أنا لم آت لأدافع عنهم لأنهم ليسوا عملاء، ولا أقول إنهم أبرياء».
بعدها، ولعدم تحول هذه القضية الى ورقة اسرائيلية يستخدمها العدو يوماً ما، برزت أولى المعالجات في ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله، بعد نقاش عميق لم يكن رئيس تحرير «الأخبار» ابراهيم الأمين بعيداً عنه، خلص النقاش الى البند الرقم ستة، وفيه: «انطلاقاً من قناعتنا بأن وجود أي لبناني على أرضه أفضل من رؤيته على أرض العدو، فإن حل مشكلة اللبنانيين الموجودين لدى «إسرائيل» يتطلّب عملاً حثيثاً من أجل عودتهم الى وطنهم، آخذين بعين الاعتبار كل الظروف السياسية والأمنية والمعيشية المحيطة بالموضوع، لذلك نوجه نداء إليهم للعودة السريعة الى وطنهم استرشاداً بنداء سماحة السيد حسن نصر الله بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، واستلهاماً بكلمة العماد عون في أول جلسة لمجلس النواب».
بعد الاتفاق على البند السادس من ورقة التفاهم، أُلّفت لجنة لمتابعة هذه القضية. لم تكد اللجنة تبدأ عملها حتى بدأت تتلقى آلاف المراسلات من لبنانيين في اسرائيل وخارجها، شرحوا فيها ظروف هربهم وتخلي الدولة اللبنانية عنهم، ورفض قيادة الجيش طلبات عناصرها بترك الجنوب والعودة الى سلطة المؤسسة العسكرية الرسمية. في هذه الرسائل شاركنا هؤلاء معاناتهم في الاراضي المحتلة، حيث لا يمكنهم تسجيل زواجهم في أي سجل، فيولد مولودهم بلا قيد، ويدرس أطفالهم دون شهادات في أرض لا تمت اليهم بصلة.
في هذه الرسائل، اعتقد هؤلاء يومها أن الدولة قد استفاقت أخيرا لوجودهم، وأنها أخيرا ستؤمن الآلية القانونية المناسبة لعودتهم.
هنا، لا بد لي أن أتوجه للسيد ابراهيم الامين، الذي لم يقرأ حديث البطريرك سوى عبر منطق التخوين والسخرية مما سماها «الفتوى التي خرج بها جهابذة مقربون منه (الراعي) لتسوية الوضع مع المحتجين على زيارته لفلسطين»، عندما قال ان «البطريرك بشارة الراعي يدرس، الآن، فكرة أن يزور إيران!».
قد يزور البطريرك الراعي ايران حتماً، وطبعا عندها ستكون عناوين «الأخبار» ممجّدة لخطواته، حتى لو «ارتكب» الراعي هناك ما يمس السيادة الوطنية، ودائماً خدمة لمقاومة، هي خيارنا أيضا من دون أن يزايد علينا أحد في دعمنا هذا المسار الوطني الاستراتيجي لمقاومة العدو الاسرائيلي، الا أن على المقاومة نفسها، أن تعيد النظر جدياً في صورتها التي تنعكس اعلامياً في عناوين رنانة، تنجح حتماً في التعبئة وزيادة الانقسام بين اللبنانيين.
وأرى نفسي مضطرا إلى أن أذكّر الأمين بأن معالجة هذا الملف لطالما كانت بعيدة عن التعبئة وتجييش العواطف. ودائماً بعيداً عن رؤية البطريرك لهؤلاء وتعميمه البراءة لهم، وهو الذي قد يُسجل له يوما ما إعادته القضية الى الواجهة.
لم يتبع ورقة التفاهم سوى قانون هش جرّده مجلس النواب من أي قابلية للتنفيذ، بل أقره بصياغة عامة بحاجة لمراسيم تطبيقية لم تناقشها أي حكومة لاحقة. غابت قضية العائلات اللبنانية في «إسرائيل» لسنوات لاحقة تعايش فيها الجميع مع أمراء حرب تحولوا الى رؤساء المؤسسات اللبنانية. غابت قضية هؤلاء «المجرمين» بينما كان مجلس النواب يقر قوانين عفو لمجرمي حرب بعضهم قتل الجيش اللبناني وبعضهم قاتل آلاف اللبنانيين.
غاب هؤلاء فيما فُتحت طريق الترشيح للرئاسة لمن ثبت أنه تعامل يوما مع العدو نفسه. غاب هؤلاء فيما تحول قادة ميلشيات قدّموا يوما ما أفخم النبيذ لمسؤولين اسرائيليين، وقاتلوا جنبا الى جنب مع جيش العدو، الى رؤساء كتل نيابية مرجحة في ملفات البلد المصيرية.
لقد طلب ابراهيم الامين من البطريرك أن يعتذر، ماذا لو طلبنا من زعماء السياسة اللبنانية أن يعتذروا عما اقترفت أيديهم من اهمال وذل للبنانيين؟
فليعتذروا بعدما قادوا لبنانيين ليكفروا بالوطن وبنيه.
لنا لبنانيون هناك، أكثريتهم لم تكفر بنا بعد، لنا لبنانيون يولدون بصمت ويتزوجون بصمت ويموتون بصمت، ولنا عملاء هنا يتزاحمون على المال والسلطة.
* قيادي في التيار الوطني الحر