«مدننا عُبوة معدّة للتفجير». هذه العبارة التي وردت على لسان المدير العام السابق للإسكان محمد يونس، تكشف عن واحدة من ظواهر أزمة السكن في لبنان. لهذه الأزمة شقان أساسيان في السوق: الطلب والأسعار. الأول، يبدو أنه يتضاعف من دون مبرّرات في زيادة عدد السكان، والثاني يتسارع في الارتفاع في ظل شكوى دائمة ومتواصلة من جهة العرض. الأمر ليس مفارقة شكليّة، فهذه السياسات هي التي أنتجت «تحرير عقود الإيجارات»، وهي تهدف إلى طرد المستأجر القديم، والمالك القديم أيضاً.
القصّة لا تتعلق بحقوق الملكية وحقوق المجتمع، بل هي قصّة «مضاربجية».
عندما أشار يونس إلى وجود أكثر من 200 ألف شقّة سكنية شاغرة في لبنان، كان يضع إصبعه على الأزمة السكنية الفعلية، لأن كلامه يدفع نحو التساؤل: كيف ترتفع أسعار الشقق في لبنان، فيما هي شاغرة؟ من يولّد حركة الطلب على هذه الشقق؟ أي شرائح في لبنان تشتري وبأي هدف؟
في الواقع، إن الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في الإجابة عن عدد من الظواهر العقارية؛ مثل ظاهرة التركّز المدني وهجرة الأرياف، والتفاوت الحاد بين مستويات الدخل وأسعار العقارات، يضاف إليها بعض عوامل الفرز الطائفي والسياسي والمناطقي وسواها من العناصر الهامشية في هذا المجال.
وبحسب يونس، فإن المدن في لبنان باتت متخمة إلى درجة أنها أصبحت عبوات متفجرة «ففي لبنان، نسبة التركّز السكاني تصل في مثلث جونية ـــ الدامور ـــ أعالي برمانا إلى 65% من سكان لبنان».
قد يفسّر هذا التوصيف مشكلة التركّز في الطلب في هذه المنطقة، ونشوء ضواحٍ جديدة جنوباً وشمالاً وشرقاً، إلا أنه لا يفسّر استقرار أعداد المقيمين في لبنان على رقم يتراوح بين 3.9 ملايين نسمة و4.1 ملايين نسمة، لأن هذا الاستقرار يعني أن الطلب على الشقق يفترض ألا يصل إلى 15 ألف شقة سنوياً، وفق تقديرات بعض المصارف.
وبحسب الوزير السابق شربل نحاس، فإن ظاهرة النزوح من الريف لا تبرّر ارتفاع الطلب على السكن وارتفاع أسعار الشقق بمعدلات غير طبيعية، بل «الهجرة هي التي تفسّر ما يحصل لأنه رغم استقرار عدد السكان، فإن الطلب على الشقق لا يزال استثنائياً». فاللبنانيون يهاجرون من أجل «تعزيز مداخيلهم في دول الخليج، وعندما يحققون حلم الهجرة، يتاح لهذه الفئة الاستثمار في لبنان واقتناص الريوع».

كل الحلول
الموضوعة لمعالجة مشكلة السكن ساهمت في تعميقها


وفي رأي نحاس إن «الطلب الاستثنائي على الشقق غير مربوط بحاجة استثنائية، بدليل أن عدداً كبيراً من الشقق لا يزال شاغراً في لبنان. هذا الطلب من المهاجرين ومقتنصي الريوع، هو وحده يبرّر ارتفاع أسعار الشقق، وأسعار الأراضي أيضاً». واللافت أن هذا الطلب يغذّي نفسه بنفسه، فالأسعار ترتفع والطلب موجود وعدد السكان يتناقص وعدد المهاجرين يزداد، والفرص الريعية لتحقيق الثروات متاحة لأن هناك المزيد من المهاجرين...
ليس سهلاً الخروج من هذه الحلقة من الطلب على الشقق، وليس سهلاً ضبط أسعار الشقق لأنها مموّلة بمداخيل تأتي من الخارج بمستويات مرتفعة ومرتبطة إلى حد بأسعار النفط «فالمهاجرون يرون في المضاربات العقارية على الملكيات في لبنان وسيلة لتحقيق الأموال السهلة».
وفي هذا المعنى، إن الهدف ليس إنشاء المباني لبيع الشقق، بل أصبح الهدف الذي يسبغ هذه الحلقة هو استمرار الريع «الذي يسعد الناس لأن كلّاً منهم سيصبح سعيداً بارتفاع سعر العقار الذي ورثه أو اشتراه بأسعار بخسة قبل سنوات، والجميع يفرح بقدرته على بيع عقاراته بأسعار خيالية تحقق له أرباحاً هائلة».
عند هذا الحدّ، لا يعود من الضروري الإشارة إلى حجم الطلب الفعلي على السكن «لأن أزمة السكن ليست أزمة كمية من الطلب لا قدرة في السوق على تلبيتها، بل هي أزمة نظام يجعل الريوع سهلة التحقيق، وأزمة دخل فردي لا يتناسب مع أسعار الشقق والأراضي» على ما يقول نحاس. وبالتالي، لا تعود هناك أي ضرورة لتفسير ظاهرة النزوح إلى المدينة لتبرير ارتفاع الأسعار، لكن من الضروري الإشارة إلى هذا الوضع بوصفه الإطار الذي أفرز «تحرير الإيجارات القديمة» وأفرز معه الحاجة إلى مزيد من الأراضي لتغذية الحلقة نفسها التي ندور فيها منذ عقود.
وبحسب يونس، إن «كل الحلول التي وضعت لمعالجة مشكلة السكن في لبنان لم تضع أي حلّ اقتصادي شامل، بل ذهبت في اتجاه تعميق المشكلة، مثل قانون الإيجارات والتسوية التي أقرّها مجلس النواب أخيراً». وفيما كان من الضروري أن يكون الحلّ شاملاً، بدأت تظهر اقتراحات مثل الإيجار التملكي، وإعفاء الشارين من رسم التسجيل إذا كانت قروضهم تصل الى 800 مليون ليرة كحدّ أقصى. «كل هذه الاقتراحات لا تصبّ في صلب المشكلة ولا تمثّل حلّاً لأزمة السكن، ولا للشقق الشاغرة ولا للطلب الفعلي في السوق على السكن، أي ذلك الناتج من المقيمين في لبنان. فمن يملك الأموال، عليه أن يدفع ضريبة. والإيجار التملكي هو اقتراح لشريحة من الشباب من ذوي الدخل المتدني الذين ليس لديهم قدرة على شراء مسكن بسبب مستويات دخلهم المنخفضة جداً»، يقول يونس.
بعض هذه الاقتراحات استعملت للتسويق بكونها حلّاً لتحرير عقود الإيجارات القديمة. إلا أن «أولئك الذين يرغبون في تحرير بعض الأراضي في بيروت مارسوا ضغوطاً هائلة من أجل تسريع إقرار قانون تحرير العقود القديمة التي ستجري تغييراً ديموغرافياً كبيراً لأنها ستطرد المستأجرين من المناطق التي يعيشون فيها، وكلفة هؤلاء ستكون على المالكين القدامى الذين سيبيعون ملكياتهم العقارية ويطردون من المناطق أيضاً... ليحلّ بدلاً منهم الشغور».
إذاً، عن أي سياسات إسكانية نتحدث؟ هل من الضروري أن يشتري كل اللبنانيين شققهم، وأن تكون هناك ضوابط من خلال إقرار قوانين لتنظيم العلاقة بين المستأجر والمالك؟
الإجابة على لسان نحاس بسيطة جداً على النحو الآتي: «إذا أنشأت مبنى وقرّرت أن تؤجر الشقق فيه، فعليك أن تدفع ضريبة على المداخيل من الإيجارات، فيما ستحقق أرباحاً استثمارية على المدى المتوسط والطويل. لكن في المقابل، إن بيع الشقق في ظل وجود طلب مموّل بمصادر خارجية (المغتربين في دول الخليج) سيوفّر على صاحب المبنى ضريبة الدخل، ولا يخضع لأي نوع من ضريبة التحسين العقاري ويحقق الأرباح الكبيرة بسرعة، ويسمح للمالك بأن يعيد الكرة مجدداً خلال فترة قصيرة لا تتعدى 3 سنوات أو 5 سنوات كحد أقصى. الحكاية ليست حكاية مستأجرين ومالكين، بل هي قصّة المضاربجية الذين يحتاجون إلى الأراضي في بيروت من أجل اقتناص الريوع».