لم تعد المديرية العامة لأمن الدولة كما كانت. لم يعد لاسمها الوقع الذي كانه قبل أكثر من خمس عشرة سنة. الجهاز الأمني الذي أُنشئ بموجب المرسوم رقم 2661 بتاريخ 6 أيلول 1985، كان من أبرز مهماته حماية الشخصيات. غير أن المهمة الموكلة إليه ليست أمنية بقدر ما هي إدارية ولوجستية، لتأمين مرافقين وسائقين لشخصيات استهلكت عديد «أمن الدولة»، من دون أن يسجل لهم أي إنجاز يُذكر حتى على صعيد الحماية الأمنية للشخصيات.
في مرحلة تأسيسها، سجّلت مديرية أمن الدولة بقيادة اللواء نبيه فرحات إنجازات أمنية عدة، لعلّ أبرزها كشف قتلة الأخوين أنطونيوس في التسعينيات، تلك الجريمة التي أحيلت على المجلس العدلي وانتهت بإعدام مرتكبيها، ثم كشف جريمة تزوير الطوابع الأميرية في وزارة المالية وكشف لغز مقتل أحد أطرافها رأفت سليمان، قبل أن تتورط المديرية في «مؤامرة» توقيف عناصر من الجيش الأحمر الياباني في البقاع الغربي عام 1997.
مسار تطوّر المديرية لم يُكمل صعوداً. بدأ الانحدار منذ عام ٢٠٠٥، وحتى قبله. أولى إشاراته لاحت مع تعيين العميد الياس كعيكاتي مديراً عاماً بالوكالة. تميّز عهد هذا الضابط بفساد إداري ومالي، فوضع ديوان المحاسبة يده على العديد من قضاياه.
ورغم كل ما تقدّم، لم تُسجّل المديرية الأمنية انحطاطاً مثل الذي تعيشه اليوم. عصر الانحطاط هذا بدأ في عام ٢٠١٠ مع تعيين اللواء جورج قرعة مديراً عاماً لأمن الدولة. يُعدّ قرعة من الفريق الأمني للرئيس ميشال سليمان الذي افتتح عهده بقرار حل هذا الجهاز لانعدام إنتاجيته، لكن لم يلبث أن تراجع عن هذا القرار ليُمنح المدير الجديد ما لم يمنح لأي من أسلافه.
رُفع اعتماد الجهاز في الموازنة الخاصة عبر فتح اعتمادات ملحقة لشراء آليات وتجهيزات إدارية وإلكترونية ومعدات متطورة للتنصت بملايين الدولارات. ورُفعت قيمة المخصصات السرية من 57 مليون ليرة شهرياً إلى 375 مليون ليرة شهرياً، أي جرى مضاعفتها سبع مرات. كل ذلك لم يُغيّر شيئاً في أداء المديرية. احتفظ سعادة المدير العام لنفسه بأكثر من نصف المصاريف السرية. لم يغيّر في ذلك إضافة مبلغ يفوق ملياري ليرة لبنانية، مخصص للاستعلام، وهو نتيجة فروقات في أرقام الميزانية العامة في بند النفقات السرية منذ عام 2010، والتي كانت تبلغ ستمئة مليون ليرة سنوياً. تلك الأرقام التي تمت الموافقة على زيادتها في حكومتي الرئيس رفيق الحريري والرئيس نجيب ميقاتي في عامي 2012 و2013 بلغت نحو أربعة مليارات ليرة لبنانية، لكن العمل الاستعلامي والأمني الذي يُموّل من أموال الخزينة ومال الشعب اللبناني بقي معدوماً.
حال المديرية اليوم أكثر من تعيسة. الخلافات الداخلية في مجلس قيادة أمن الدولة (يتألف من المدير العام ونائبه) فاقمت من تعطيل الجهاز، إذ لم تُعقد أي جلسة منذ ما يزيد على ستة أشهر. ويزيد الطين بِلّة، إصرار المدير العام على التفرد بقراراته، إذ تنقل المصادر أن قرعة يحرص على عدم إطلاع نائبه على المعاملات الإدارية والأمنية، علماً بأن قانون تنظيم أمن الدولة يفرض عليه ذلك. وتلفت المصادر إلى أن بعض المعاملات التي تتضمن معلومات أمنية لم تعد تُرسل إلى نائب المدير العام العميد محمد الطفيلي لإبداء رأيه فيها، علماً بأن صلاحيات الأخير تخوّله ذلك لإبداء رأيه قبل إرسالها إلى المدير العام لاتّخاذ القرار. وتُقدّر المصادر أن ذلك لإخفاء المعلومات أو حظرها عن العميد الطفيلي. وبالتالي، بحسب المصادر، يطرح ذلك أكثر من تساؤل حيال صفقات مالية محتملة. تعدد المصادر صفقة شراء وتجهيز المديرية العامة بآليات رباعية الدفع وسيارات على مدى سنتين، تمت بالتراضي مع شركة رسامني يونس. وصفقة تجهيز المديرية العامة لأمن الدولة بمعدات إلكترونية خاصة بالاستعلام والتنصت بقيمة تفوق مليون دولار أميركي. وصفقات تلزيم شراء أسلحة وذخائر وفتح الاعتمادات المخصصة لها. وفوق كل ذلك، لم يبت المدير العام مباريات التطوّع لـ300 مأمور متمرّن أجروا اختباراتهم منذ سنتين. تركها قرعة معلقة، ثم أضاف إليها سابقة أخرى تمثلت في عدم بتّ نتيجة دورة ضباط من الصف، بسبب رسوب أمين سرّه في الامتحانات التي يجريها الجيش. واعتمد قرعة المحسوبيات الطائفية والشخصية في تشكيلات المأمورين والرتباء والأفراد من دون العودة إلى مجلس القيادة بشكل مخالف للقانون. وفعل الأمر نفسه في توزيع التنويهات على المحظيين لديه. يشار إلى أن هذه القرارات كانت تُمرّر من دون إمضاء نائب المدير العام، فقد كان قرعة يمررها من دون عرضها في مجلس القيادة.
خلال عامي 2010 و2011، نُقل 30 ضابطاً من الجيش اللبناني إلى المديرية العامة لأمن الدولة. شكّل ذلك عبئاً إضافياً على ضباط المديرية الأساسيين الذين نُقلوا على أساس محاصصة سياسية وشخصية. التهَم قرعة حصة الأسد. عيّن المحظيين لديه في المراكز القيادية، حارماً منها ضباط أمن الدولة الأساسيين. ومن حصة سعادته، كان العميد روبير جاسر الذي تربطه قرابة بالمدير العام لكونه زوج ابنة عمه، والعميد جهاد ضاهر ابن خالة سائق قرعة. أما العميد فادي حداد، فشقيقه ضابط شهيد في الجيش من دورة المدير العام، وأتى به نتيجة علاقة شخصية. كذلك الأمر مع المقدم ريمون أبو معشر. فزوجته قريبة أمين سر المدير العام. وأخيراً العميد عبدو فضول، الضابط الذي يشغل حالياً رئاسة شعبة المعلومات في أمن الدولة، خدم في الجيش بصفة ملحق عسكري في فرنسا في عام 2007، وعند عدم توافر مركز لائق لفضول في الجيش، أتى به رفيق دورته قرعة إلى أمن الدولة، علماً بأنه من حيث الرتبة أعلى من نائب المدير العام.
هكذا، كان لهؤلاء الضباط اليد الطولى في السفر إلى الخارج. سجّل صديق المدير العام، العميد المتقاعد انطوان مكاري، الرقم القياسي لكونه أكثر ضباط المديرية سفراً. أما العميد أبو معشر فقد سافر ثلاث مرّات خلال سنة واحدة.

في المديرية غرفة غير
شرعية للتنصّت أبرز العاملين فيها عميل سابق في ميليشيا لحد


لقد أرسى قرعة في مديرية أمن الدولة الطائفية في الوظيفة بشكل كبير، ضارباً عرض الحائط بمبدأ الكفاءة. يحكي الضباط عن ابتزاز يتعرّضون له في عملية النقل والفصل والانتداب إلى الخارج. يقول أحدهم إنهم يساومون حتى في قبض النفقات السرية التي أحياناً تُحجب عنهم في محاولة من المدير العام لإخضاعهم. وبحسب المصادر، يتم تخصيص كل مدير إقليمي في المديرية بمبلغ يتراوح بين ٧ و١٠ ملايين. ويُمنح كل رئيس مكتب إقليمي ٣ ملايين ونصف المليون. هذه المصاريف يُفترض أن تُستثمر في الجهد الاستعلامي وإنشاء الشبكات. لكن بسبب عدم الرقابة، تُصرف هذه الأموال من دون توخي مردود أو نتيجة. وعليه، لا تتم محاسبة المدير الإقليمي لتقييم إنتاجه ومحاسبته على صرف هذه المخصصات. والهدف من ذلك، إبقاء هؤلاء في صفّ المدير العام في معركته مع نائبه.
ما تقدم غيض من فيض بِدع اللواء قرعة. تدور في المديرية أحاديث عن منازل المدير العام الثلاثة (الروضة وفيطرون والحازمية، والأخير يبلغ ثمنه نحو مليون دولار أميركي) التي يتولى حراستها أكثر من 70 عنصراً وضابطين. ووضع بتصرفه وتصرف عائلته أكثر من 14 سيارة رباعية الدفع، وحرمت منها المكاتب والدوريات. ذلك ليس كل شيء. فزوجة المدير العام موظفة في المديرية العامة لأمن الدولة بمنصب رئيسة قسم الكمبيوتر من الفئة الرابعة، على الرغم من وجود ضابط مهندس متخصص. وتجدر الإشارة إلى أنها لا تُداوم في مقر المديرية، وموضوع تحت تصرفها آليات عسكرية فخمة وعناصر مواكبة ترافقها عند تنقلها، ويقال إن بدل عقدها السنوي يزداد باستمرار.
وإمعاناً في الإسراف في تسخير المديرية لأغراض المدير العام الشخصية، أصبح عناصر أمن الدولة يعملون فرق حماية خاصة ولأهداف شخصية. فقد كلّف المدير العام عناصر لمواكبة رئيس مجلس إدارة شركة مقاولات كبرى عندما يزور لبنان، علماً بأن ذلك القرار لم يُتّخذ لأي سبب أمني أو تنفيذاً لمقررات مجلس الأمن المركزي، كما هي الأصول، بل لأن ابن سيادة المدير العام يعمل في الشركة المذكورة في اليونان.
وبعد ترميمه منزل ذويه في مدينة بعلبك، أجّره قرعة إلى أمن الدولة لاستخدامه بصفة مقر لمديرية بعلبك ـــ الهرمل بعقد يتجاوز ثلاثين مليون ليرة سنوياً.
لم تقف تجاوزات اللواء قرعة عند هذا الحد. فقد أصدر قراراً عنصرياً باستدعاء العمال السوريين بشكل يومي إلى مراكز أمن الدولة وإخضاعهم للتحقيق العشوائي من دون أي شبهة ومن دون إشارة القضاء. لم يُعرف السبب، لكنه طلب من المديريات الإقليمية تكثيف الاستدعاءات بحيث يفرض على كل مكتب في القضاء استدعاء أربعة عمال سوريين يومياً كحد أدنى، علماً بأن هذا الأمر ليس من صلاحياته، لكون الأمن العام افتتح مراكز في المناطق لتسجيل جميع السوريين.

عميل سابق يتنصّت!

كل ما سبق لا يعادل نقطة في بحر ما يرتكبه المدير العام على الصعيد الأمني، إذ اشترت المديرية العامة معدات متطورة للتنصت على الهواتف الخلوية من بلجيكا وألمانيا، لكن من دون أن تحدد الجهة التي تزوّد بتلك المعلومات التي لم تُسعف في توقيف إرهابي واحد بعد. ليس هذا فحسب، بل استُغلت هذه الأجهزة في التنصت على ضباط المديرية ومراقبتهم للوقوف على ولائهم. كذلك تجدر الإشارة إلى أن القانون رقم 140/1999 المتعلق باعتراض الاتصالات الهاتفية لم يلحظ أي مهمة لأمن الدولة في ملف التنصت، بل حصر ذلك في غرفة تحكّم مقرّها وزارة الاتصالات وبإشراف القضاء المختص، وبمشاركة مندوبين عن وزارتي الداخلية والدفاع. فلماذا اتخذت هذه المديرية العامة هذا القرار بالدخول إلى مضمار التنصت والمتابعة الإلكترونية؟ وهل هذا يتم بعلم السلطة السياسية وموافقتها؟ وهل القضاء في لبنان على دراية بهذا العمل؟ ولمصلحة من تعمل تلك الأجهزة على الأراضي اللبنانية؟ وللعلم، فإن أحد أبرز العاملين في مجموعة التنصت في قسم الاستعلام التقني في المديرية هو رتيب كان عميلاً في ميليشيا أنطوان لحد المتعاملة مع العدو الإسرائيلي.

لم يبتّ قرعة نتيجة دورة
ضباط بسبب رسوب أمين سرّه في الامتحانات التي أجراها الجيش
ورغم عشرات العمليات الإرهابية التي استهدفت لبنان في الأشهر الأخيرة، لم يلحظ أي دور لهذا الجهاز، إلا في ما يتعلق بالمقاومة. فقد بان نشاط شعبة المعلومات في أمن الدولة أثناء التقصّي عن شبكات اتصالات المقاومة لجمعها المعلومات عنها. وتُسجّل لها نسبة أخبار كاذبة وملفقة بحق كوادر في المقاومة، رُفعت بموجب تقارير رسمية إلى المجلس الأعلى للدفاع.
لم يعد جهاز أمن الدولة معدوم الإنتاجية فحسب، بل يُشتبه في تآمره على المقاومة والمواطنين. وبشأن الفساد الذي ينخر بعض ضبّاطه حدِّث ولا حرج. والوقائع شاهد وإخبار لتتحرك أجهزة المحاسبة. أمام كل هذا، يُصبح لزاماً التحرّك لحلّ هذه المؤسسة المهترئة وتوزيع عديدها على الجيش وقوى الأمن للاستفادة منهم، وربما الحل الأنسب إعادة بنائها من جديد.



شعبة المعلومات

يُعدّ العميد عبدو فضّول الرجل الثاني في المديرية العامة لأمن الدولة. ويعتبره ضباط المديرية أنه الساعد الأيمن للواء جورج قرعة. يحصل الضابط القادم من الجيش، والذي يرأس شعبة الخدمة والمعلومات، على مخصصات سرية شهرية قدرها ٥٠ مليون ليرة. تخضع لإمرته خمسة أقسام هي: الأمن الداخلي، الأمن الخارجي، الاستعلام التقني، التحليل والاستثمار، والخدمة والعمليات. يوزع فضول من المخصصات على هذه الأقسام النزر اليسير، بحيث لا تتجاوز مخصصاتها في أفضل الأحوال عشرة ملايين ليرة، فيما يُبقي لديه ٤٠ مليوناً. من إنجازات فضول تفرّغه، باعتبار أن الوضع الأمني ممسوك، لرفع تقارير عن عمل غرفة التنصت لمضمون اتصالات ضباط المديرية للواء قرعة. ويسجّل له أيضاً دفعه بيديه، منذ أقل من شهر أمام مبنى المديرية، أحد الرتباء لأنه ردّ عليه بقوله: «إني أُطبّق القانون»، قبل أن يكيل له وللقانون أقذع الشتائم. كل ذلك جرى أمام عدسات كاميرات المراقبة التي سجّلت الحادثة.
ومن إبداعات فضول ما سبق أن نشرته «الأخبار» عن دوره الرئيسي في الاتهام الذي وجّهه المدير العام لأمن الدولة اللواء جورج قرعة له بالعبث بالمعلومات الواردة إلى المديرية، وتلك التي تُرفع إلى السلطة السياسية، في محاولة منه لتضمين تقرير رسمي صادر عن الجهاز نفسه معلومات مغلوطة بهدف النيل من حزب الله، لكن قرعة لم يتخذ أي إجراء بحق فضول. وأقرّ المدير العام لأمن الدولة بأنه طلب من إحدى قطعاته جمع معلومات عن شبكة اتصالات المقاومة، مشيراً إلى أنه اكتفى بطلب «مقاطعة المعلومات» عن تمديد شبكة جديدة.




إنجازات أمن الدولة

«أمن الدولة» لم يعد مديرية. لا يرقى إلى فصيلة حتى، بل بات أقرب إلى «مخفر» صغير يلاحق جرائم من حجمه. إنجازاته التي يكشف عنها بالقطّارة مُبهرة. فقد سجّل الجهاز، بعد رصد ومتابعة، إنجازاً بتوقيفه المطلوب السوري أحمد عواد الحامد، مواليد حلب ـــ تل عابر، لإقدامه على دخول البلاد خلسة. وتم تسليمه إلى القضاء المختص. وأعلن هذا الجهاز أن عناصره تمكنوا من توقيف المدعو خالد ح. بعد مداهمته داخل شقة في بر الياس، بسبب صدمه للفتى محمد علي عكو (12 سنة) على طريق عام بر الياس. كذلك زفّ الجهاز إلى اللبنانيين خبر دهمه معمل أجبان وألبان فاسدة، علماً بأن ذلك من مهمات مصلحة حماية المستهلك. وكأن الجهاز يؤدي مهماته ليتبرّع بأداء مهمات غيره. ليس هذا فحسب، فقد أحبطت مديرية الجنوب الإقليمية في أمن الدولة عملية بيع ورهن عقار في مدينة صيدا، وأوقفت بالتنسيق مع المديرية في بيروت المدعو ط. ح. (لبناني) حيث ضبطت في حوزته مستندات مزورة. كذلك نجح ضباط الجهاز في توقيف متعاطي مخدرات وضبط شبكات تزوير إخراجات قيد وشهادات جامعية.
هذه الإنجازات يحققها جهاز يبلغ عديده ٢٥٠٠ ضابط وعسكري ويحصل على مصاريف سرية قدرها أربعة مليارات و٥٠٠ مليون ليرة سنوياً، علماً بأن صلاحياته التي تنص عليها القوانين والمراسيم الناظمة لعمله تجعل منه اسماً على مسمى: المديرية العامة لأمن الدولة.