في ذروة الصراعات والحروب التي خرجت من عباءة الربيع العربي المُجهَض، يعود إيلي بورجيلي إلى الحرب الأهلية اللبنانية التي لا تزال جروحها مفتوحة وغير قابلة للشفاء. معرضه الجديد «ذاكرة 75» هو تجهيز مؤلف من 24 صندوقاً موزعة على ثلاثة صفوف متساوية المساحات، وموصولة ببعضها بأسلاك وأشرطة مثبّتة على أرضية صالة العرض في «المعهد الفرنسي في بيروت».
نظن لوهلة أن الصناديق هي توابيت، وأن انتظامها في صفوف يجعلها مقبرة جماعية، وأن المرآة المثبّتة في أعلى كل واحد منها صالحة لكي تكون شواهد قبور. الفكرة تبدو قابلة للتصديق، ولكن ما ينتظرنا فعلاً هو شيء آخر، وإن كان لا يلغي انطباعنا الأول حول المقبرة، خصوصاً أن الفنان يعرض جدارية تطلّ على «حقل» الصناديق، ومرسوم عليها وجوه موتى وضحايا حقيقيين.
ما أن يضع زائر المعرض قدمه في الداخل حتى يشتعل ضوء في أحد الصناديق، وتنبعث أصوات أشبه باستغاثات وكلمات غير مفهومة، بينما يرى وجهه في المرآة المثبّتة على الصندوق. التجهيز قائم على فكرة أننا يمكن أن نتسبب في حدوث شيء من دون أن نكون مسؤولين عنه فعلاً، وأن يفعل سوانا الأمر نفسه لنا أو لغيرنا.

نظن لوهلة أن الصناديق توابيت والمرآة المثبّتة عليها هي شواهد قبور

وإذ يسمح ذلك بالتخفف من الإحساس بالذنب، فإننا مدعوون بعد ذلك إلى معاينة محتويات الصناديق الفاغرة من الأعلى التي تضم في قعرها وجهاً مجسماً في الوسط، وعلى يمينه ويساره مواد وأغراض سيكون لها علاقة بتكوين الإنسان وخياراته المصيرية التي ستستدعي أسئلة عن التسامح والتعصب والعدالة والكراهية وغيرها من المفردات التي تشكل جزءاً من ذاكرة من عاشوا الحرب الأهلية، ومن يعيشون اليوم حروباً طائفية ومذهبية أكثر فتكاً ودماراً. محتويات كل صندوق تقترح شيئاً ما، إذْ نجد شظايا زجاج، وقطعاً معدنية، وخشباً مقطّعاً وفحماً، وأقلام رصاص وورقاً أبيض، وأوراقاً مستعملة ومجعلكة ومرمية، وبكرات شاش وخيوطاً، وأحجاراً ورماداً، ونباتات في أصص صغيرة، وحبالاً وشموعاً... مواد ومستعملات رأيناها في أعمال سابقة لأبو رجيلي كما في معرضه «طواطم» (2008) الذي قدمه في «المعهد الفرنسي» أيضاً. مواد وعناصر نراها وقد حظيت بأدوار ووظائف مماثلة في الفيديو القصير (8 دقائق ونصف) الذي يعرض ما تُظهره كاميرا تشقّ طريقها في كوريدور فارغ وطويل، ثم نرى صوراً جامدة لجدار وأرض وقساطل وزفت وقمامة... الإيقاع يذكرنا بمناخات المخرج الياباني أكيرا كوروساوا في عرض الصور الجامدة، بينما غياب الإنسان متعمد من أجل منح الأشياء والتفاصيل العابرة قيمتها الحقيقية وفرصتها الكاملة في لفت الانتباه. الذاكرة التي في خلفية المعرض تتعرض لاختبارات أخرى لها علاقة بما يجري في الحياة اليومية. هناك شعرية ما تتصاعد من هذه الممارسة الطقسية وتأملاتها الفلسفية. كأن الذاكرة تتحول إلى حاضر وإلى مستقبل مع الطبعات الجديدة والمنقحة للصراعات في المنطقة. الطرح التفاعلي للتجهيز المعروض يولّد أفكاراً وانطباعات أكثر مما يتوقع الفنان نفسه.

غياب الإنسان
متعمد من أجل منح التفاصيل العابرة قيمتها الحقيقية

فن التجهيز قائم أساساً على ممارسات مفهومية سرعان ما تتجزأ وتنشطر إلى مفاهيم أصغر أو أكبر، بينما يكون مطلوباً من الزائر ليس تلقّي الانطباعات التي يبثّها التجهيز، بل عليه أن يؤلفها أو يشارك في تأليفها.
هكذا، سنُفاجأ أنّ واحداً من الصناديق المعروضة فارغ، وأنه ليس سوى صندوق ذخيرة طُبعت مواصفاتها ورموزها التجارية على جوانبها الخشبية الملونة بأخضر البزات العسكرية، وأن الصناديق الـ 23 الأخرى كانت تحتوي على ذخيرة أيضاً، وأنها تُستخدم أو استُخدمت في قتل الناس في الحروب. انطباعٌ مثل هذا يمنح المعرض طبقة إضافية من المعاني والتأويلات التي كانت فكرة «المقبرة» واحدة منها، ولكن أبو رجيلي لا يحصر التجهيز في عنوانه فقط. الذاكرة هي ذاكرة الحرب، وهي ذاكرة الفرد والجماعات في الأزمنة العادية أيضاً. الجدار الصامت الذي نراه في الفيديو مثلاً قد يكون ذاكرة عابرةً لبشرٍ استندوا إليه بظهورهم أو بإيديهم، وقد يكون تكرار ذلك غيّر في لون الجدار مع مرور الوقت. هذا أيضاً تأويلٌ أو مقترحٌ موجود في فكرة التجهيز الذي يمكن تتوالد منه سردياتٌ واستعاراتٌ وأسئلة بلا نهاية.



«ذاكرة 75»: حتى 27 حزيران (يونيو) الحالي ــ «المعهد الفرنسي في بيروت»، للاستعلام: 03/498051